الاحتلال كوسيلة للإصلاح ونشر الديمقراطية.. اليابان نموذجا - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 10:05 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الاحتلال كوسيلة للإصلاح ونشر الديمقراطية.. اليابان نموذجا

نشر فى : السبت 1 يناير 2022 - 9:20 م | آخر تحديث : السبت 1 يناير 2022 - 9:20 م

كما شرحنا فى المقالة الماضية، فإن عددا من السياسات التى اتبعها الحلفاء بعد الانتصار فى الحرب العالمية الثانية، ظلت هى المشكل الرئيسى للسياسات العالمية حتى اللحظة. فكما كان مشروع مارشال مدشنا لسياسة المساعدات الدولية بعد الحرب العالمية وحتى الآن، فإن احتلال الحلفاء لليابان وألمانيا كان أيضا مدشنا لمبدأ استخدام القوة من أجل إجبار الدول المستقلة ذات السيادة على الإصلاح والتحول الديمقراطى كما سنشرح فى السطور القليلة القادمة!
فى نهاية عام ١٩٤٢، شكل الرئيس الأمريكى روزفلت لجنة استشارية لشئون ما بعد الحرب تكونت من عشرات الدبلوماسيين والخبراء الأمنيين والأكاديميين بهدف مساعدة الرئيس على صياغة حزمة سياسات أمنية وسياسية واقتصادية فى مرحلة ما بعد الحرب، وبالفعل فقد تقابلت اللجنة التى كانت تعمل مباشرة تحت إشراف وزارة الخارجية الأمريكية عشرات المرات مع الرئيس فى الفترة بين ١٩٤٢ وحتى ١٩٤٥ وصاغت عددا من الخيوط العامة التى أصبحت بوصلة للسياسات الأمريكية فى علاقاتها الدولية حتى الآن!
وحينما أعلن الإمبراطور اليابانى هيروهيتو استسلام اليابان غير المشروط فى أغسطس ١٩٤٥ للحلفاء، فقد قام الرئيس الأمريكى بتطبيق الخطوط العامة التى اقترحتها هذه اللجنة والتى كانت فى مقدمتها الاحتلال بهدف الإصلاح والتغيير! ولفهم هذا المبدأ الجدلى فى العلاقات الدولية، يمكن أن نلقى لمحة سريعة على طبيعة الاحتلال الأمريكى لليابان فى الفترة بين ١٩٤٥ وحتى ١٩٥٢. فبعد استسلام اليابان مباشرة عهد الرئيس روزفلت إلى الجنرال دوجلاس ماك آرثر والذى كان يشرف على العمليات العسكرية للحلفاء فى منطقة شرق وجنوب شرق آسيا من مقره فى مانيلا، قيادة قوات الحلفاء لاحتلال اليابان. وبالفعل سافر وفد أمريكى به العشرات من الخبراء الأمنيين والمتخصصين فى القانون الدولى والدبلوماسية إلى مانيلا للقاء ماك آرثر للترتيب لاحتلال اليابان، وبالتوازى سافر وفد يابانى يمثل الإمبراطور هيروهيتو إلى مانيلا لترتيبات عملية الاحتلال العسكرى هذه!
بالاطلاع على تفاصيل الجلسات التى جرت بين الجنرال آرثر وبين الوفد اليابانى، يمكن فهم الفلسفة المؤسسة للسياسات الأمريكية بخصوص التغيير والإصلاح فى الدول المناوئة لها أو من يمكن وصفهم بالأعداء أو الخصوم السابقين، فالمحادثات لم تشمل فقط الترتيبات اللوجستية لاحتلال عسكرى لليابان، ولكنها شملت ما يشبه الترتيب لإدارة كاملة للحلفاء (وتحديدا الولايات المتحدة) لليابان سياسيا واقتصاديا وأمنيا!
•••
من الملفت للنظر أنه لم تحدث خلافات بين الوفدين الأمريكى واليابانى فى مانيلا حيث لم يكن الوفد اليابانى يتصرف كند قط لنظيره الأمريكى، ولكنه كان وفد دولة مهزومة يحاول ترتيب أوضاع ما بعد الهزيمة بالاستماع مليا للدول المنتصرة! ولكن كانت الخلافات بين الحلفاء أنفسهم وتحديدا بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى وبشكل أقل بين الولايات المتحدة وفرنسا. حيث سعى الاتحاد السوفيتى إلى إقناع الولايات المتحدة بتقسيم اليابان إلى دوائر نفوذ أمريكية ــ سوفيتية، بينما رأى الأمريكان ضرورة توحيد اليابان (على الأقل الجزر الأربعة الرئيسية) تحت قيادة موحدة، وبالفعل تمكن الأمريكان بعد استمالة بريطانيا وفرنسا لتطبيق مبدأ وحدة الاحتلال، حيث خضعت الجزر الرئيسية لليابان لاحتلال الحلفاء بقيادة أمريكية، فيما تحصل الاتحاد السوفيتى على جزر الكوريل ومناطق نفوذ اليابان ما قبل انتهاء الحرب فى جنوب سخالين (حاليا جزء من روسيا) وشمال شبه الجزيرة الكورية (لاحقا كوريا الشمالية)، بينما حصلت الصين على قيادة جزيرة تايوان المحتلة، فيما سيطر الحلفاء (الولايات المتحدة) على مجموعة الجزر اليابانية الجنوبية الممتدة بين جزيرة شيكوكو وتايوان.
ورغم تشكيل الحلفاء لمجلس للإشراف على احتلال اليابان، إلا أن الولايات المتحدة بقيادة آرثر كانت هى المهيمن الفعلى على صياغة وتنفيذ السياسات على الأرض! اعتمدت سياسة آرثر والذى كان يتصرف فى الكثير من الأحيان باستقلالية حتى عن حكومته فى واشنطن على تطبيق مبدأين، المبدأ الأول هو مساعدة سكان اليابان على اكتساب ثقة الحلفاء ومن ثم ضرورة حسن معاملتهم وعدم التصرف معهم باعتبارهم محتلين، ولكن باعتبارهم أصدقاء! أما المبدأ الثانى فهو مبدأ إعادة الإعمار السياسى والاقتصادى بما يضمن احتواء اليابان كحليف للولايات المتحدة الأمريكية وباقى دول الحلفاء وفى القلب من ذلك كان هدف آرثر هو ضمان نزع القدرات العسكرية اليابانية!
فيما يتعلق بتطبيق المبدأ الأول كان أكبر تحدٍ أمام القوات الأمريكية هو نقص الغذاء والإيواء لملايين اليابانيين بفعل تدمير الحرب لبنية اليابان التحتية وكذلك للمحاصيل الزراعية، فكانت أول قرارات آرثر هو تشكيل شبكات إمداد غذاء لملايين اليابانيين المشردين وتوفير الإيواء العاجل لهم بما يضمن احتواءهم واكتساب ثقتهم وهو ما تحقق بالفعل! كذلك فقد قام آرثر بصياغة دستور يابانى يدعم الديمقراطية وفى القلب من ذلك كانت المادة التاسعة الشهيرة التى تمنع اليابان من تشكيل جيش أو الانخراط فى حروب هجومية، وكذلك المواد الخاصة بسلطات الإمبراطور اليابانى والتى نزعت منه كل القرارات التنفيذية وتركته كسلطة رمزية للبلاد!
الحقيقة أن علاقة آرثر بالإمبراطور اليابانى كانت دائما محل بحث وجدل! فآرثر رفض تماما أن يتحمل الإمبراطور اليابانى أى مسئولية فيما يخص الحرب، ومن ثم رفض معاقبته أو حتى نزع العرش منه! كان آرثر يريد ثقة الإمبراطور باعتبار أن هذه الثقة هى مفتاح فهم أسرار الدولة اليابانية من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن هذه الثقة من شأنها تعزيز ودية العلاقات بين قوات احتلال الحلفاء وبين الشعب اليابانى وخصوصا فى ظل مركزية الإمبراطور فى الثقافة اليابانية!
•••
والحقيقة أن آرثر تمكن بالفعل من تحقيق ما أراد بشكل جزئى، فاكتساب ثقة الإمبراطور كان بالفعل من أهم العوامل التى ساعدت آرثر على فهم نظام الحكم فى اليابان وأسراره، ولكن فيما يتعلق بكسب ثقة الشعب من خلال الإمبراطور، فلم يتحقق ذلك إلا بشكل جزئى والسبب فى ذلك حدثان! أما الحدث الأول فكان الإعلان الشهير الذى أذاعه الإمبراطور هيروهيتو على الشعب وعرف ببيان «إنسانية الإمبراطور»، وهو البيان الذى اعترف فيه الإمبراطور بأن موقعه على رأس الدولة اليابانية إنما قائم على الثقة المتبادلة مع الشعب اليابانى وليس قائما على أى أساطير دينية! وهو ما كان سائدا بالفعل بين عامة اليابانيين الذين اعتقدوا أن الإمبراطور هو ظل الله على الأرض وأن تتويجه على العرش هو فعل إلهى مقدس له أسرار دينية لا يعرفها العامة! ولكن مع هذا الإعلان الذى أقر فيه الإمبراطور بإنسانيته فقد اهتزت واحدة من أهم ركائز الثقافة السياسية اليابانية فى العصر الحديث!
أما الحدث الثانى، فقد كان متعلقا بالزيارة الشهيرة التى قام بها الجنرال آرثر للقصر الإمبراطورى والتى خلالها قام بالتصوير مع الإمبراطور وبينما كان الأخير فى حلته الرسمية ملتزما بالوقوف بكل انضباط، ظهر ماك آرثر بزيه العسكرى غير مكترث كثيرا بلقاء الإمبراطور واضعا إحدى يديه فى وسطه! بل وظهر من خلال الصورة الفرق الشاسع فى الطول والبنية الجسدية بين الإمبراطور اليابانى والقائد العسكرى الأمريكى!
لم تكن هذه مجرد صورة، ولكنها عرت الكثير من القدسية الزائفة التى أصبغها الإمبراطور على نفسه أمام الشعب، وهو الأمر الذى كان له الكثير من التداعيات الأخرى التى سنكملها فى مقال الأسبوع القادم!
أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر