كان الإعلان عن وقوع مئات القتلى يوم 21 أغسطس، ضحايا لاستخدام غازات كيماوية، حلقة جديدة فى المأساة السورية المستمرة منذ ما يزيد على العامين. المعارضة وجهت إصبع الاتهام نحو النظام الحاكم الذى سارع إلى نفى الاتهام وردِه إلى المعارضة نفسها. وقبل أن تحزم الدول العربية المجتمعة فى جامعتها أمرها وتعلن موقفا من الاستخدام المشين للأسلحة الكيماوية، كانت القوة العظمى الوحيدة فى النظام الدولى، أى الولايات المتحدة، ومعها دولتان عضوان دائمان آخران فى مجلس الأمن، هما بريطانيا وفرنسا، قد عبرت جميعا عن بالغ انزعاجها، ونظمت كل منها اجتماعات تبحث فى اللجوء إلى خيار عسكرى، وحركت قطعا بحرية، ودعت برلماناتها إلى مناقشة الأمر فطلب هذا ألا يلجأ إلى استخدام القوة العسكرية إلا بتصريح صريح منه، وناشد ذاك حكومته التمهل حتى يصدر تقرير المفتشين الدوليين الذين أرسلتهم الأمم المتحدة للتحقيق فى استخدام الأسلحة.
اللافت للنظر أن الاعتبار الأول فى التهديد باستخدام القوة العسكرية هو التأكيد على قاعدة يراد لها أن تكون آمرة فى قانون النظام الدولى، وهى عدم جواز استخدام الأسلحة الكيماوية فى أى عمليات عسكرية. وارتبط بهذا الاعتبار البحث عن سند قانونى للتدخل لعقاب النظام السورى على استخدام الأسلحة الكيماوية، خاصة أنه من شبه المؤكد أن روسيا لن تسمح بصدور قرار عن مجلس الأمن يرخِص باستخدام القوة ضد سوريا بمقتضى الباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة. هل يوجد هذا السند إذن فى بروتوكول ابرم سنة 1925 فى جنيف يحظر الأسلحة الكيماوية ولكنه يعدم أى آلية لتنفيذ الحظر أو للمعاقبة على انتهاكه؟ أم أن السند فى اتفاقية الأسلحة الكيماوية المبرمة سنة 1993 والتى لم تنضم إليها سوريا وبالتالى فهى ليست ملتزمة بأحكامها؟ وهل يمكن أن يكون السند فى قاعدة «المسئولية عن الحماية» أو فى رواية أخرى «حق التدخل»، وهى قاعدة مشكوك فى سلامتها القانونية، فضلا على أنها تثير التساؤل عن أسباب عدم استدعائها حتى هذه اللحظة لحماية المدنيين منذ بدء النزاع الأهلى المرير فى سوريا. البحث عن سند قانونى فى حد ذاته يكشف عن أنه لا يوجد فى القانون الدولى ثمة قاعدة آمرة تنهى عن استخدام الأسلحة الكيماوية. ليست فى الإشارة إلى أنه لا توجد مثل هذه القاعدة الآمرة تجاهل لبشاعة هذه الأسلحة وللانهيار الأخلاقى لمن يستخدمها، ولكنها مجرد تسجيل لانعدام أى سند قانونى للتدخل العسكرى ضد من استخدمها، والأهم لترسيخ قواعد للسلوك فى النظام الدولى تحددها الدول الأقوى فى النظام الدولى. يعزز هذا التفسير لسلوك الدول الأقوى ما أعلنته نفس هذه الدول عن أن الهدف من تدخلها العسكرى لن يكون اسقاط النظام الحاكم فى سوريا ولا نصرته، كما أنه لن يكون نصرة أى طرف من أطراف المعارضة أو اسقاطه. بعبارة أخرى، لا علاقة بين التدخل العسكرى لهذه الدول الأقوى بوضع حد للمأساة الجارية فى سوريا وإنما العلاقة هى بسلوك تصادف أنه مورس فى سوريا! هو عقاب مجرد إذن، أما المأساة السورية، فإن كان لها أن تستمر فلتستمر، وليدفع ثمنها سوريا والسوريون وليشاركهم فى تسديد الثمن العرب فى البلدان المجاورة وبلدانهم.
●●●
التكلفة على العرب وعلى بلدانهم هى تكلفة باهظة بالفعل. مئات الآلاف من السوريين تدفقوا على لبنان، وعلى الأردن، وعشرات الآلاف غيرهم فروا إلى العراق المنكوب ذاته، وإلى مصر، غير أولئك الذين ذهبوا إلى تركيا. تكاليف إعاشة اللاجئين السوريين تثقل كاهلى الأردن ولبنان بالذات وهما البلدان المنهكان أصلا. المساعدات العربية والدولية لا تكفى لتلبية الاحتياجات المعيشية المباشرة من مأكل ومسكن، ناهيك عن توفير الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية للاجئين من مختلف الأعمار، الرجال منهم والنساء، الصبية والفتيات. والمساعدات المالية تقدم لكى يبقى اللاجئون فى لبنان أو الأردن، ولكنه، وبالطبع، لا يخطر ببال الدول التى تقدمها أن تخفف عن عاتق هذين البلدين بأن تستقبل، لأغراض الحماية الإنسانية إياها، بعضا من مئات الآلاف التى تكتظ بها شوارع بيروت وطرابلس أو مخيمات الأردن!
أما الخطر الأكبر لأى تدخل عسكرى، حتى وإن قبلنا أن المقصود به عقاب محدود، فهو يكمن فيما يمكن أن يتطور إليه هذا التدخل إذا ما قوبل بأى نوع من المقاومة، من جانب، وفى السلوك الذى يمكن أن تتخذه أطراف النزاع السورى كنتيجة للتدخل، هذه غضبا منه أو تلك مستغلة للظروف الجديدة التى أنشأها، من جانب آخر. ما يقال عن أن التدخل العسكرى لن يخلخل التوازن بين أطراف النزاع بأى شكل من الأشكال حجة لا يمكن أن يقبلها أى منطق.
●●●
إخلال التوازن بين أطراف النزاع فى سوريا يمكن أن يطوِر النزاع وأن يدخله فى مرحلة جديدة، وسيترتب على ذلك خلخلة التوازنات فى الدول المجاورة، وهى توازنات سكانية، عرقية ودينية وطائفية، دقيقة وخطيرة. عندما ارتسم نظام الدول الإقليمية فيما يسمى منطقة الشرق الأدنى العربية فى العشرينيات من القرن العشرين، نشأ هشا وبدول هشة أخذت تبحث عن توازنات سياسية واجتماعية لم تبلغها قط بتوافقات حقيقية بين مكونات شعوبها، وإن كانت هذه الدول فى سعيها لتحقيق التوافقات قد تعرفت على بعض تضاريسها السكانية. تطور جديد فى النزاع فى سوريا سيفرز تدفقات إضافية من اللاجئين إلى الدول المجاورة فيؤدى إلى مزيد من الإخلال بالتوازنات فيها، وإن لم يفرز هذه التدفقات فهو سيولد ردود أفعال ضد التدخل أو فى نفس اتجاهه تفاقم من الاختلالات فى الدول المجاورة وفى سوريا نفسها.
أى تدخل فى المأساة السورية هو لعب بالنار. إن أرادت الدول الكبرى أن تحمى الشعب السورى، وإن رغبت دول المنطقة فى أن تحفظ السلم فيما بينها، فإن عليها جميعا أن تضع كل وزنها وراء الجهود الرامية إلى الإسراع بعقد مؤتمر السلام فى جنيف، على أن تدرج مسألة استخدام الأسلحة الكيماوية على جدول أعماله، لعل المؤتمر ينجح فى وضع حد للمأساة السورية، وفى انقاذ النظام الإقليمى.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة