منظور ترامب لتنظيم العلاقات الدولية - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
الخميس 13 مارس 2025 7:17 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

منظور ترامب لتنظيم العلاقات الدولية

نشر فى : السبت 1 مارس 2025 - 7:10 م | آخر تحديث : السبت 1 مارس 2025 - 7:10 م

هذه محاولة لفهم كيف ينظر الرئيس دونالد ترامب للعلاقات بين الدول لعلها تفيد فى تحديد موقفنا منه، مستفيدين من تاريخ طويل من النزاعات بين الجماعات البشرية ومن التعاون بينها، اتفق المنتصرون فى الحرب العالمية الثانية على أهداف للعلاقات فيما بين دولهم وأى دول تنضم إلى صفوفهم، وعلى مبادئ يراعونها فى سعيهم لتحقيق هذه الأهداف. هذه هى أهداف منظمة الأمم المتحدة ومبادئها التى تنظم العلاقات فى نظام دولى تقع الدول فى قلبه. فى الثمانين عاما الأخيرة، تعرضت مبادئ المنظمة الدولية لانتهاكات شتى وتجاهلت أطراف فيها أهدافها فى أحيان عديدة. خبرة منطقتنا بذلك لا تعادلها خبرة. الانتهاكات والتجاهل كانت بتفسيرات فاسدة، صريحة أو مضمرة، للمبادئ والأهداف. إلا أن أهم ما يلاحظ هو أن أحدا لم يسائل فى سلامة الأهداف والمبادئ المذكورة.
من بين الأهداف المنظمة للعلاقات الدولية نشير إلى هدفين الأول هو تنمية العلاقات الودية بين الدول على أساس مبدأ المساوة فى الحقوق بين الشعوب وحقها قى تقرير المصير، والثانى هو تحقيق التعاون الدولى لحل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية والترويج لاحترام حقوق الإنسان للجميع بدون تمييز بسبب العنصر، أو الجنس، أو اللغة أو الدين.
من بين مبادئ تنظيم العلاقات بين الدول، نذكر أربعة، الأول هو المساواة فى السيادة بين الدول، والثانى هو أن تضطلع الدول الأعضاء بحسن نية بالتزاماتها التى قبلت بها، والثالث هو تسوية المنازعات بالطرق السلمية، والرابع الامتناع عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد سلامة أراضى أو الاستقلال السياسى لأى دولة أخرى. تنظيم العلاقات الدولية فى مجال التجارة استند إلى مبدأ تحريرها بالتخفيض التدريجى للحواجز الجمركية فضلاً عن استبعاد الحصص التجارية كسبيل لتنظيم التجارة. بدون الخوض فى سلامتها من عدمها، فإن الحجة التى يستند إليها تحرير التجارة الدولية هى أنها السبيل الكفيلة برفع معدلات النمو الاقتصادى من جانب، كما أنها تحقق السلم الدولى، من جانب آخر، حيث إن أطراف التبادل التجارى الحرّ والكثيف لا تقوم حرب بينها فالتجارة تؤدى إلى التعارف بين أطرافها والتعاون بينها، والحرب خسارة مادية باهظة التكاليف عليها.

• • •
الرئيس ترامب يزدرى كل الأهداف والمبادئ المذكورة أعلاه. سياساته وأفعاله منذ أن وصل إلى موقع الرئاسة فى 20 يناير الماضى على النقيض منها.
أهم ما فى منظور الرئيس الأمريكى هو ازدراؤه لمبدأ المساواة فى السيادة. هو لا يقبل هذا المبدأ حتى فيما يخص الدول الحليفة للولايات المتحدة أو الصديقة لها. هو مثلاً لا يعير اهتماما لحلف شمال الأطلسى، تجسيد التحالف الغربى الذى كانت الولايات المتحدة وراء إنشائه وقادته عسكريا فى ثلاثة أرباع القرن المنصرمة. هو أعلن رغبته فى ضم كندا ضد رغبتها إلى الولايات المتحدة، وهو فى سبيله إلى فرض تعريفات جمركية معتبرة على بعض صادراتها إلى بلاده. والرئيس الأمريكى أعلن عن رغبته فى ضم جزيرة جرينلاند الدنماركية كذلك ضد رغبة الدنمارك بل إنه لم يستبعد استخدام القوة فى تحقيق مراده. لا يكترث الرئيس الأمريكى بأنه بذلك ينتهك مبدأ عدم التهديد باستخدام القوة أو استخدامها.

من أجل تسوية النزاع الروسى الأوكرانى الواقع فى شرق القارة الأوروبية، يستبعد الرئيس الأمريكى أوكرانيا نفسها، وينهر رئيسها، والدول الأوروبية، حليفته فى الحلف الأطلسى، من المباحثات التى يجريها ممثلوه مع الطرف الروسى. نائب الرئيس الأمريكى ذهب إلى مؤتمر ميونيخ للأمن ليوبخ الدول الأوروبية علنا ويعطيها دروسا عن الديمقراطية وعن مصالحها هى، ثم ليلتقى بزعيمة اليمين المتطرف العنصرى النازى الجديد قبل أيام من الانتخابات التشريعية الألمانية. الرئيس الأمريكى ونائبه يهينان الرئيس الأوكرانى فى البيت الأبيض الذى يطلب منه مغادرته. وفى فرضه لرسوم جمركية مرتفعة على حلفائه فى كندا والاتحاد الأوروبى، وعلى المكسيك والصين، يخرج الرئيس ترامب على النظرية الليبرالية للتجارة الدولية.
• • •
خلاصة الأمر أن الرئيس ترامب يبدو وكأنما يضيق بفكرة التحالف ذاتها. التحالف فى رأيه يقيده ويضع الدول الأخرى الحليفة على قدم المساواة مع الولايات المتحدة وهو ما لا يقبله. هو يرى الولايات المتحدة فى أعلى هرم وفى مواقع أسفلها يوجد «الحلفاء»، ومعها أو بعدها دول أخرى حليفة أو غير حليفة، وكلهم يجب عليهم قبول ما تريده بلاده. هذا التشكيل الهرمى هو النقيض لمبدأ المساواة فى السيادة. هو أقرب إلى تشكيل امبراطورى من حقب قديمة. الإمبراطوريات تقوم على علاقات خضوع للإمبراطور وعلى تحقيق مصلحته أولاً على حساب مصالح الخاضعين له.
الرئيس ترامب لا يعبأ كذلك بهدف التعاون الدولى فى حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية والترويج لحقوق الإنسان بدون تمييز على أساس العنصر أو الجنس أو اللغة أو الدين. هو سحب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية فحرمها من اشتراك الولايات المتحدة فى ميزانيتها. هذا الاشتراك ليس تكرما، كما يحلو للرئيس الأمريكى وأنصاره أن يقولوا. كل الدول تشترك فى تمويل ميزانيات المنظمات الدولية وفقا لنصيبها من الناتج العالمى الإجمالى، ولمتوسط الناتج المحلى الإجمالى فى كل منها، ولاعتبارات أخرى أقل وزنا. اشتراك الولايات المتحدة كبير. غير أن حقيقة الأمر هى أنه أدنى مما ينبغى أن تسدده فهو يمثل 22 فى المائة من ميزانية كل من المنظمات الدولية بينما يصل نصيب الولايات المتحدة من الناتج العالمى الإجمالى إلى 26 فى المائة. فى الوقت نفسه، أوقفت الولايات المتحدة كل برامج المعونة التى تقدمها للبلدان النامية سواء كان ذلك عن طريق الوكالة الأمريكية للتنمية، أو وزارة الخارجية الأمريكية، أو أى وزارات أو هيئات رسمية أمريكية أخرى. أوقفت الولايات المتحدة كذلك تموبل وكالات دولية مثل المفوضية السامية للاجئين، وصندوق الأمم المتحدة للطفولة، وبرنامج الأغذية العالمي، ومنظمات دولية غير حكومية. محصلة الانسحاب ووقف برامج المعونة والتمويل هى عجز عن علاج مرضى، وعن تمويل خطط الوقاية وبناء المؤسسات، وعن توفير تعليم وتدريب على مستوياتهما المختلفة.
جليٌ أن الرئيس الأمريكى لا يكترث بما يحققه التعاون الدولى لبلاده من نفوذ فى النظام الدولى، وأنه لا يرى فيه إلا تكاليف على ماليتها. فى عرف الرئيس الأمريكى، ليس على الدولة الأكبر فى النظام الدولى أى مسئوليات تجاه الأصغر أو الأضعف المسئول عن صغره أو ضعفه. الرئيس ترامب سحب بلاده كذلك من المجلس الدولى لحقوق الإنسان زاعما أنه حاد عن مبغاه وأنه يختص إسرائيل بالملاحقة. معروف أنه أوقف تماما التمويل الأمريكى لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين فى تماهى مع موقف إسرائيل منها. موقف الرئيس الأمريكى من حقوق الإنسان لا يقتصر على ذلك. هو يوجه اتهامات حادة لجنوب إفريقيا التى لا تفعل غير تصحيح ظلم واقع على الأغلبية السوداء فيها التى حرمها نظام الفصل العنصرى من الأرض مساحةً وجودةً. بموقفه يدافع الرئيس ترامب عن آثار العنصرية فى جنوب إفريقيا خلافاً لمبدأ عدم التمييز على أساس العنصر. موقفه من غزة ومن مجمل القضية الفلسطينية فيه الكثير من العنصرية علاوة على انتهاكه لحق تقرير المصير. هذا ليس غريبا فالرئيس ترامب يمارس التمييز فى الولايات المتحدة نفسها، فهو رفت رئيس أركان حرب القوات المسلحة المشتركة الأمريكية الأسود بدون مبرر وأحلّ جنرالاً أبيض متقاعدا أدنى منه رتبةً محله، ورفت كذلك أول امرأة رئيسة لأركان حرب البحربة الأمريكية واستبدل بها رجلاً، كما أنه يفكك مؤسسات التنوع والمساواة بين النساء والرجال وبين المجموعات العرقية والعنصرية المختلفة فى الولايات المتحدة.
• • •
سواء تعلق الأمر بالمساواة فى السيادة، أو بعدم استخدام القوة، أو بالتجارة الدولية، أو بالتعاون الدولى، الرئيس ترامب يخرج على أهداف ومبادئ مستقرة للنظام الدولى. هو يريد أن تمارس الولايات المتحدة قوتها بشكل ثنائى وبلا مرشحات على الدول الأخرى، الكبيرة منها والمتوسطة والصغيرة. غير أن القواعد المذكورة لا ترجع إلى العام 1945 بل هى، كما ورد فى بداية هذا المقال، مستمدة من تاريخ طويل شكلته الحضارات والثقافات المختلفة. حتى إن سقط التنظيم الدولى الحالى فلا بدّ أن ينشأ مكانه تنظيم دولى جديد تفرضه التحديات المشتركة التى تواجهها البشرية. التنظيم الجديد يمكن أن تكون له أشكال وقواعد مختلفة، غير أن الأهداف والمبادئ المستقرة للنظام الدولى لا يمكن أن تسقط.
التمسك بهذه الأهداف والمبادئ فى مواجهة ما تريده لها الولايات المتحدة الترامبية متزايد. المكسيك وكندا أعلنا أنهم سيردان على الرسوم الجمركية برسوم من عندهما. القوى السياسية كلها فى كندا اتحدت لرفض فكرة ضم بلادها للولايات المتحدة. الدنمارك رفضت بيع جرينلاند وأخذت فى التسلح. الدول الأوروبية كلها أعلنت عن تأييدها لأوكرنيا بعد الإهانة التى لحقت برئيسها فى البيت الأبيض. مفوضة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبى صرحت بأن «العالم الحر يحتاج إلى زعيم جديد وأن هذا تحدٍ على الأوروبيين أن يواجهوه». أوكرانيا رفضت اتفاقية عن المعادن النادرة التى أراد الرئيس ترامب أن يفرضها عليها. الصين أعلنت أنها سترد على أى رسوم جمركية تفرض على منتجاتها برسوم مثلها على المنتجات الأمريكية. جنوب إفريقيا أعلنت أن الولايات المتحدة لن تخيفها وتثنيها عما تفعل.
فرص أفكار الرئيس ترامب فى التحقق ضئيلة. وعى دولنا العربية بذلك ضرورى، خاصة وهو يروج فى الوقت الحاضر لأفكاره عن غزة وعن مجمل القضية الفلسطينية. أى مشروع عربى لإعادة بناء غزة ولحكمها ولتسوية القضية الفلسطينية برمتها ينبغى أن يكون مشروعا قائما بذاته وليس بديلاً عن أفكار الرئيس الأمريكى. المشروع يُقدَّمُ إلى المجتمع الدولى ممثلاً فى الجمعية العامة للأمم المتحدة وليس إلى الرئيس الأمريكى الذى لا ينبغى الاعتراف له بحق منح الشرعية أو حبسها.
مرة أخرى، يجب ألا نبدو أمام الرئيس ترامب الحلقة الأضعف التى يمكن أن تنجح فيها أفكاره.

 

إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات