إدوارد سعيد ونتنياهو - يوسف الحسن - بوابة الشروق
الأربعاء 12 مارس 2025 11:57 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

إدوارد سعيد ونتنياهو

نشر فى : الأربعاء 12 مارس 2025 - 6:55 م | آخر تحديث : الأربعاء 12 مارس 2025 - 6:55 م

تعود بى ذاكرة المكان (العاصمة الأمريكية واشنطن) إلى لقائى الأول مع المفكر والناقد والأكاديمى الفلسطينى - الأمريكى، الدكتور إدوارد سعيد (توفى سنة 2003)، فى خلوة عصف ذهنى، فى صيف 1982، إثر احتلال إسرائيل لبيروت، بعد حصارها.
وضمت تلك الخلوة نخبة من الأكاديميين العرب الأمريكيين، وبدعوة من كلوفيس مقصود، مدير مكتب الجامعة العربية فى واشنطن، ومن بين المشاركين كان هشام شرابى، وإبراهيم أبو لغد، وسميح فرسون، وعبدالعزيز سعيد، ووليد خالدى، وجاك شاهين، وإدمون غريب، وجيمس زغبى، وخليل جهشان، ونصير عارورى.. وغيرهم.
وقد حضر الخلوة عدد من الدبلوماسيين العرب، من بينهم الصديق المغفور له، عبدالقادر العامرى سفير قطر حينئذ بواشنطن.
وجرى نقاش ومداولات حول السبل النافعة والآليات المناسبة للنشاط العربى فى المجتمع الأمريكى، لتصويب الصورة النمطية العربية المشوهة فى أوساط سياسية ومجتمعية وإعلامية واسعة.
استمعت بكثير من الاهتمام لحديث إدوارد سعيد، وجدت فيه أيقونة نادرة وشجاعة فى عالم الأفكار وقدرته النقدية على تفكيك المركزية الأمريكية والغربية، ودفاعه عن القضايا العربية، وبخاصة القضية الفلسطينية.
ولد إدوارد سعيد فى مدينة القدس، فى عام 1935، وعاش متنقلاً بين القاهرة والقدس، والتحق بجامعة برنستون فى عام 1951، ومن ثم جامعة هارفارد، وحاضر فى العديد من الجامعات الأمريكية، وحصل على منصب أستاذ جامعى فى جامعة كولومبيا فى نيويورك.
نشر أكثر من عشرين كتابا، وأهمها كان كتاب «الاستشراق»، وكتاب «تغطية الإسلام».
فى ربيع 1988، كان إدوارد سعيد، يستقل الطائرة من نيويورك إلى لندن، ودخل بنيامين نتنياهو إلى الطائرة وكان وقتها يشغل منصب سفير إسرائيل فى الأمم المتحدة. وصادف أن وقف نتنياهو والتفت إلى الوراء ليفاجأ بوجود إدوارد سعيد يجلس خلفه، تسمَّر فى مكانه، وطلب من المضيفة تغيير مقعده فورا، وتم له ذلك، واعتذرت المضيفة لإدوارد سعيد، قائلة: «يبدو أن السفير خائف منك».
وقد روى إدوارد سعيد هذه القصة لنا على مائدة الغداء، فى جنيف، على هامش اجتماع لمجلس الأمناء لمؤسسة التعاون الخيرية فى عام 1997، وكأنى به اليوم يقول: «إن نتنياهو يرفض أى مشترك إنساني، فالمكان يجب أن يكون خاليًا من الفلسطينيين، لأن هذا الوجود يذكره بالجريمة التى ارتكبها، وبنبوءة سوداء مشحونة بأساطير ووصايا الإقصاء وطمس الآخر».
فى ذلك اللقاء، فى جنيف، كان إدوارد سعيد يشعر بخيبة أمل شديدة، بعد اتفاقيات أوسلو، والتى فشل قادة فلسطينيون أثناء التفاوض بشأنها، فى إقامة دولة فلسطينية مستقلة أو إقرار حق العودة للاجئين، وتجاهل التهديدات التى يشكلها الاستيطان فى الضفة الغربية والقدس.
كتب كثيراً فى هذا الشأن، وفى السنتين الأخيرتين من حياته، وجد أن المخرج الوحيد لحل الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى هو حل «الدولة الواحدة» القائمة على المواطنة المتساوية.
فضح فى كتبه ومحاضراته حرب الغرب الشرسة لشيطنة الديانة الإسلامية، لأغراض جيوسياسية وثقافية، كما أثار كتابه «الاستشراق» ضجة عالمية، وجدلاً واسعًا فى الأوساط الأكاديمية.
كان أيضاً عاشقاً للموسيقى، وألف أربعة كتب فى الموسيقى والأدب، والهويات المتشابكة، ونشر المعرفة بأمانة أخلاقية وفكرية، وأتقن لغات عدة بجانب العربية والإنجليزية والفرنسية، مثل الإسبانية والألمانية.
كانت لديه حساسية متقدة تجاه الظلم، فكان أفضل من تحدث عن معاناة الشعب الفلسطينى، وعبَّر بعمق عن معاناة الضحية، ودافع عن إنسانية المعرفة، وبؤساء العالم الثالث، وكشف الغطاء عن الترسانة الفكرية والأيديولوجية التى استخدمت فى القرن التاسع عشر لتبرير الاضطهاد الاستعمارى.
كرّمته الإمارات، حينما فاز بجائزة سلطان العويس الثقافية عام 1999، ككاتب مبدع وشجاع، وصاحب ضمير حى فى زمن مليء بالذعر والتملق والتصحر.
وصفته «نيويورك تايمز» ذات يوم بأنه «واحد من أقوى النقاد الثقافيين تأثيرًا فى العالم».
أستحضر مع ذكرى وفاته الثانية والعشرين، ذكرى رحيل شقيقته المؤرخة روز مارى سعيد زوجة العالم والصديق أنطوان زحلان. وقد التقيتها فى أبوظبى قبل نحو ثلاثة عقود، مؤرخة مختصة بدراسات الخليج العربى، ونشرت العديد من الكتب عن دول الخليج العربية، ومن بينها كتاب «أصول الإمارات، وتاريخها السياسى والاجتماعى» باللغة الإنجليزية، وكان آخر مؤلفاتها كتاب «فلسطين ودول الخليج ــ العلاقات الفعلية» والذى صدر بعد وفاتها.
وفى دبى، فى الرابع من ديسمبر ٢٠٠٣، أقيم حفل تأبين للراحل إدوارد سعيد، استذكر فيه كاتب هذه السطور، المعانى التى انطوت عليها حياته وفكره، حتى صار جزءًا من الذاكرة الجماعية للمفكرين العرب، ولنخب مثقفة عالمية، أعطى بشجاعة وسخاء وكوّن إرثًا من الفكر والثقافة، ولم يجد صعوبة تذكر فى الجمع بين شخصيته الفلسطينية والعربية والكونية، هويات ثلاث، صهرها فى قلبه وعقله وثقافته.
وهو على فراش الموت، أوصى ولديه نجلاء ووديع بأن يواصلا العمل والفرح.
إدوارد وروز مارى سعيد، علَمان يرفرفان فى حياتنا الثقافية.. لروحهما السلام والسكينة.

يوسف الحسن  مفكر عربي من الإمارات
التعليقات