قال «الناى» - يوسف الحسن - بوابة الشروق
الأربعاء 5 مارس 2025 3:30 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

قال «الناى»

نشر فى : الثلاثاء 4 مارس 2025 - 9:45 م | آخر تحديث : الثلاثاء 4 مارس 2025 - 9:45 م

فى التأمل، يسعى الإنسان إلى بناء جسر بينه وبين الحياة، من خلال التساؤلات الفكرية، والتجربة الذاتية، ومحاورة الأفكار ومحركيها، عبر الزمان والمكان. نتأمل قولًا فلسفيًا قديمًا حول الإنسان، مفاده: «إذا ما فكَّر المرء، وجد أن الحياة مأساة (تراجيديا)، وأما إذا لم يُفكِّر، فإنه يجد أن الحياة ملهاة (كوميديا)، حتى لو عاش المرء حياته بزخم من التمتع بها».. لكن المهم هو أن يزداد وعى الإنسان، بذاته وبالآخرين، وبحركة المجتمع والتاريخ.

نتأمل ظاهرة «الكذب» فى السياسة، يُسمّيها البعض «دهاء»، وتحضر إلى الذاكرة قصة «السير هنرى ووتون» الدبلوماسى البريطانى الذى بعثه الملك جيمس الأول عام 1604 إلى البندقية كسفير، وحدث أن طُلب منه أن يكتب كلمة فى سجل الضيوف فى إحدى حفلات الاستقبال فكتب باللاتينية: «السفير رجل شريف، أُرسل ليكذب لصالح بلده». وبعد بضع سنوات، قام صحفى بنشر تلك الجملة فى أوروبا، واستغلها أعداء الملك جيمس، للحديث عن «كذب» دبلوماسيى الملك، فحاول السير ووتون تصليح الأمر، وقال إن الكلمة كانت تعنى «الاسترخاء» أو «الاستلقاء» وليس الكذب، وفى سنوات عمره الأخيرة سأله دبلوماسى مبتدئ عن نصيحة، فقال له: «قُل الحقيقة ولا تكذب».

تتأمل ظاهرة «الكذب»، وكيف رسخّت معانى «الفردية المطلقة» والأنانية وسلوكها فى العلاقات الدولية. تبحث عن موقف «ضميرى» نبيل، يصنع الأمل، فى أزمنة التوحش والاستقطاب الشره. رأيت فيما يرى النائم، على حد قول نجيب محفوظ الذى اختاره عنوانًا لمجموعة قصصية له، وجود «سيرك» كبير فى عالم اليوم، يقوده «مهرج»، ويُصفّق له رُعاع وغوغائيون، يدوسون بأقدامهم مواثيق وقوانين وأرواحًا بشرية، ويعيدون قصص العبودية، ويستدرجون العالم إلى حافة الجنون والاضطراب، ويستحضرون نظام الإقطاع من القرون الوسطى، معززًا بالتكنولوجيا وبثروة هائلة من البيانات، والأقنان الجدد.

تحضر من الذاكرة محاضرة قدمتها أمام مجموعة من الدبلوماسيين العرب، قبل نحو عقدين، قلت فيها: «ضعوا على الرف الكثير مما تعلمتموه فى الجامعات، من علوم فى السياسة والقانون الدولى والشرعية الدولية.. إلخ، إنها مثاليات، ونظريات. ألقوا بها فى «الخُرج». وراجعوا ما يجرى من تطبيق لهذه العلوم على أرض الواقع، تذكروا دومًا منظرى البراجماتية والميكيافيلية، وسيَر كيسنجر وبريجنسكى، وزعماء الحربين الأولى والثانية، ومن أشعل الحروب، ونشر الفوضى، ولا تنسوا آخرين من أساتذة معاصرين فى أكاديميات عربية ودولية، وخبراء استراتيجيين تستضيفهم فضائيات عديدة، وصاروا أشهر من أكبر الفلاسفة والمفكرين رغم أنهم لا يتحلون بالموضوعية ولا بالغزارة الاستدلالية».

عدت فى تأملاتى إلى ميكيافيلى وكتابه «الأمير» وتذكرت العالم العربى المسلم محمد بن ظفر الصقلى فى القرن الثانى عشر، والذى سبق ميكيافيلى بأكثر من 350 عامًا، فى طرح فكرة «الغاية تبرر الوسيلة»، وقال عنه مؤرخون وجغرافيون كبار، إن الصقلى كان عبقريًا مبدعًا، ومفكرًا لامعًا، وقد عمل مستشارًا لحاكم صقلية العربى، أبوالقاسم القرشى، كما عمل فى ديوان نور الدين زنكى فى حلب. نظَّر للأزمات وطالب بوضع «الدين فى خدمة السياسة» وتبنَّى مقولة «العلاقة بين الحاكم والناس يجب أن تكون قائمة على الخوف، وليس على المحبة». كلاهما: ميكيافيلى والصقلى، واجها نفس المصير، فى نهاية المطاف، طُرد الأول من الخدمة بعد سجنه وتعذيبه، ومات مجهولًا، ومات الثانى، فقيرًا معدمًا فى مدينة حماة السورية.

أتساءل فى لحظات من التأمل: متى يفيض العالم، بالماء العذب الصافى؟ فيحضر ابن الرومى وهو يقول: «سألت الناى: إلى من تبث شكواك؟ ولماذا تئن وتتألم؟» قال الناى: «منذ أن انتزعونى من مجرى النهر لم يبقَ لى غير البكاء».

 

مفكر عربى من الإمارات

يوسف الحسن  مفكر عربي من الإمارات
التعليقات