فقدت الثقافة العربية والمغربية قبل أيام علمًا من أعلامها، وهو السيد محمد بن عيسى، مؤسس منتدى ومهرجان أصيلة للفنون، الذى يعد من أعرق المهرجانات الثقافية والفنية فى العالم، وعلى كثرة ما كتب عن الراحل فإن الصحافة المصرية لم تودعه بالقدر الذى يلائم محبته لمصر التى درس فيها، وظل متابعًا لشئونها إلى أن رحل تجديدًا لمحبة عارمة كانت تملأ قلبه وعقله تجاه مصر والمصريين.
صحيح أن مكتبة الإسكندرية والسفارة المصرية فى المغرب أصدرتا بيانين فى هذا الشأن، لكنهما لا يكفيان فى تقديرى لوداع الرجل الذى كان يتحدث بالعامية المصرية مع أغلب ضيوفه العرب، لأنها اللغة التى يعرفها الجميع.
تعرفت على بن عيسى، خلال دورة العام الماضى، من معرض الرباط للكتاب لكنى كنت أعرف مهرجان أصيلة منذ طفولتى حين قرأت عنه موضوعًا صحفيًا كان يزين غلاف مجلة العربى الشهيرة.
لم أصدق يوم أن وجه لى الصديق العزيز المبدع الدكتور أحمد المدينى الدعوة لزيارة سى محمد بن عيسى فى بيته وحضور مجلسه فى الرباط، كانت الجلسة هادئة وحميمة لم يزد عدد الحضور فيها على خمسة أشخاص من أصدقاء الراحل الذين شغلوا مناصب سياسية مهمة، لكنهم انشغلوا فى الجلسة بمصر وأحوالها فحدثنى عن دراسته فى جامعة الإسكندرية وعن معرفته العميقة بدروب وأحياء القاهرة وعن الصداقات التى ربطته بأسماء مهمة وفاعلة، مثل السيد عمرو موسى والوزيرين فاروق حسنى وجابر عصفور، وكان يصف هؤلاء الكبار بأنهم من أصحاب الهمة وقادة العطاء.
وحين انتبه فى الجلسة إلى دهشتى من قدرته على الإلمام بالتفاصيل قال لى: «مصر تشبه نبضنا وإذا لم نتابع أحوالها فكيف نقيس حدود أعمارنا» أعجبنى رده وأسلوبه فى التعبير عن المحبة.
كان الرجل لماحًا ذكيًا لا تفوته النكتة أبدًا، ومن الصعب تفادى الألفة التى يغمر بها من يجالسونه والابتسامة التى كان يوزعها على الجميع بعدل نادر.
استطاع بهمة وذكاء أن يحول مدينة أصيلة من قرية صيادين إلى عاصمة للثقافة والفن فى العالم، وجعلها مقصدًا سياحيًا يعرفه كل المهتمين بالجمال فى العالم ويليق بمدينة كريمة بهية لا تكف عن اختراع الألفة.
وسواء كنت ممن اتفقوا مع منهج الرجل أو من بين الذين خالفوه لأسباب إيديولوجية فأنت لا تستطيع تجاهل المكانة التى بلغتها (أصيلة) بين المثقفين المغاربة والعرب والأفارقة، كما لا يمكن أيضًا تجاهل الحرية التى كانت تحظى بها منتدياتها فى مجالات الفكر والأدب والاقتصاد؛ فقد كانت ظاهرة لا تقل أهمية عن منتدى دافوس الذى يحظى بشهرة عالمية.
أدرك بن عيسى مع تواصل التجربة أن نجاحها مرهون بقدرتها على الاستقلال والاستمرار مرتبط أيضا بسياسات ثقافية وإعلامية تدعمها فاستعمل خبراته فى المجالين، ليجعل من مهرجان أصيلة حدثًا حقيقيًا له وجود على الأرض، وليس حدثًا ترفيهيًا يعجز عن تغيير واقع الناس فى المدينة التى تحتضن عشرات الحدائق التى تحمل أسماء مبدعين، وتستقبل سنويًا مئات الأعمال الفنية وتتسع ميادينها لقطع النحت والتماثيل الموجودة فى قلب الفضاء العام، والأهم أنه هيأ أهلها البسطاء للتفاعل مع التجربة واحترامها وحمايتها، وقاوم معهم صور تمدد القوى المحافظة فى الشارع بالهدوء اللازم لحماية ما أنجزه.
وكما كتب الروائى السودانى الكبير الطيب صالح فقد حقق محمد بن عيسى فى أصيلة شيئًا يشبه المعجزة، حول الأحلام، التى يكتبها الروائيون والأفكار التى تلوكها الألسن فى الندوات والمؤتمرات إلى واقع محسوس، كما مزج بين الثقافة والتنمية، وضرب مثلا بعيد الدلالة كيف يستطيع مجتمع أن ينهض بجهد أبنائه وبناته معتمدا على طاقته الإبداعية.
كان بن عيسى يقول: «الثورة تنجح يوم يعتم كل واحد بما حوله، يصلح ما يستطيع إصلاحه فى حدود مقدرته، كل واحد ينظف أمام داره».
بلغ بن عيسى شأنًا كبيرًا فى المغرب، وكان وزيرًا للخارجية والثقافة ونائبًا لرئيس الحكومة، لكن لقبه الأهم ظل هو عمدة أصيلة، وظل بيته هناك قبلة للمثقفين فى العالم.
وعلى الرغم من أنه حول تجربة أصيلة إلى مؤسسة كاملة الأركان ليضمن استمرارها فإن تحديات كبيرة ستواجه التجربة فى المستقبل، يرتبط بعضها بتوافر التمويل، لكن ما سينقص أصيلة دائمًا هو شخص مثل بنى عيسى يمتلك كل الصفات التى جعلت اسمه ماركة مسجلة.