شيخوخة مجتمع «جديد» - يوسف الحسن - بوابة الشروق
الجمعة 7 فبراير 2025 1:25 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

شيخوخة مجتمع «جديد»

نشر فى : الخميس 6 فبراير 2025 - 6:50 م | آخر تحديث : الخميس 6 فبراير 2025 - 6:50 م

لم تكن خطبة صلاة الجمعة فى أواخر ديسمبر الماضى، مجرد خطبة روتينية للوعظ والتذكير، تداولها البعض متندرا، وتساءل آخرون عن مقاصدها، وما وراء دعوتها الشباب إلى الزواج، والتذكير «بالمثنى وثلاث ورباع المشروطة بالعدل».
فى الملتقى الثانى لمفكرى الإمارات، والذى نظمه مركز الإمارات للبحوث والدراسات الاستراتيجية فى 28 يناير الماضى، توقفنا، أمام محور مهم يحمل عنوانا مثيرا للقلق: «شيخوخة المجتمع: أين نحن الآن؟».
تابعت مع زملاء وأصدقاء ما أثاره مغير الخييلى، رئيس دائرة تنمية المجتمع فى أبوظبى، من قضايا ومبادرات، ذات صلة بمسألة «شيخوخة» مجتمع الإمارات، وما تطرحه من تحديات تهدد مستقبل الديموغرافيا الوطنية، وتتطلب مبادرات لتعزيز دور الأسرة، وتشجيع الشباب على الزواج. والسعى الجاد لرفع معدل الخصوبة Fertility Rate فى المجتمع الوطنى.
من نافل القول، أن نخبا مثقفة وأكاديمية، تحدثت منذ أكثر من عقد من الزمان، عن مخاطر انخفاض معدل الخصوبة فى المجتمع، حينما وصل فى نهاية القرن الماضى إلى (2.7) طفل لكل امرأة، لكن لا أحد كان يتوقع أن ينخفض هذا المؤشر إلى (1.4) بحلول عام 2022، وفقا لإحصائيات البنك الدولى. وقد ترافق ذلك مع اتجاه الهرم السكانى الوطنى نحو الشيخوخة، ما يعنى فى نهاية المطاف، تراجع عدد السكان المواطنين، فضلا عن تداعيات سلبية تطال الكثير من القطاعات، وبخاصة فى ظل تركيبة سكانية عامة مختلة، وتحولات عالمية يصعب التكهن بمآلاتها وطبيعتها.
ورغم أن الشيخوخة السريعة، الناتجة عن انخفاض المؤشر القياسى الديموغرافى للخصوبة، قد أصابت العديد من المجتمعات النامية والمتقدمة، إلا أن ذلك الانخفاض استغرق فى دول متقدمة ما بين 80-120 عاما، فى حين أن الانخفاض فى معدل الخصوبة فى الإمارات، كان سريعا، وجرى خلال أقل من أربعين عاما.
إن معدل الخصوبة المنخفض عن المعدل الإحلالى والضرورى لاستدامة استقرار عدد السكان والمقدر بـ(2.3)، يصعب التحكم فيه، ويشكل عبئا ثقيلا على الاقتصاد والتنمية والميزانيات الحكومية، ونظم الرعاية الاجتماعية، والإنتاجية، وعلى أعداد القوى العاملة، وغير ذلك فى القطاعات الرئيسية.
وها هى مجتمعات متقدمة، وذات نجاحات اقتصادية مبهرة، قد انخفضت فيها معدلات المواليد، ووصل فى بعضها كاليابان، إلى مستوى أقل من (1.4). وأمست «مجتمع شيخوخة فائقة»، منذ عقد ونصف العقد.
وكذلك الأمر، فى كوريا الجنوبية؛ حيث شهدت انخفاضا قياسيا فى معدل الخصوبة (1.1) فى السنوات الأخيرة، واستثمرت كوريا الجنوبية فى مواجهة هذه الكارثة أكثر من 280 مليار دولار فى البرامج الاجتماعية الرامية لتشجيع وتنمية الأسرة التقليدية.
كما انتشرت هذه الظاهرة فى أوروبا، فى دول مثل: ألمانيا وفرنسا والسويد وفنلندا وغيرها.
تشير إحصائيات دولية، أنه بحلول عام 2050 يتوقع أن تكون أعمار ثلث عدد سكان أوروبا فوق 65 عاما. وتذكر بيانات أوروبية، أن مدارس للأطفال فى بعض القرى الألمانية، قد أغلقت أبوابها؛ بسبب ندرة الأطفال فيها.
وفى آسيا أيضا، تراجعت أعداد المواليد فى دول مثل: تايوان وهونج كونج وسنغافورة، فضلاً عن الهند، والتى كانت نموذجا للنمو السكانى السريع؛ حيث شهدت الهند فى السنوات القليلة الماضية انخفاضا حادا فى معدل الخصوبة، والذى وصل إلى (1.9)، بعد أن كان نحو (5.7) قبل سبعة عقود.
وفى الإمارات، كمجتمع دولة رعاية Welfare state، شهد ازدهارا اقتصاديا متسارعا، وتحولات بنيوية ومؤسساتية ومتغيرات ثقافية واجتماعية، تركت آثارها فى العديد من المرجعيات الوطنية، من تقاليد وأعراف، وترتيب أولويات، وتوسيع فى الخيارات، وجاءت فى سياق صيرورة التحولات التاريخية والمجتمعية خلال العقود الستة الماضية، فضلا عن ثورات الاتصال والمعلومات والمعرفة والتقانة والعولمة، وتغيرات الديموغرافيا العامة فى البلاد.
تحولات عميقة متسارعة جرت، وتشكلت أنماط حياة مرتبطة بالرخاء الاقتصادى، من بينها «ثقافة عمل» حديثة غير صديقة للأسرة، وارتفاع معدلات السمنة التى تؤثر فى معدلات الخصوبة وأكلاف عالية لحضانة الأطفال، وتربيتهم، فى نظام تعليمى تنافسى.

كما جرت تغيرات فى عناصر القيم وأنساقها، وفى أدوار المؤسسات التقليدية للتنشئة، تعطّل بعضها، وتآكل بعضها الآخر، ودخلت هذه المؤسسات التقليدية، فى منافسة مع مصادر أخرى للتنشئة أفعل وأكثر بهرجة وإغراء، وأفتك.
ورأينا كيف ارتفعت مؤشرات ثقافة (الاستهلاك البذخى)، وثقافة «الربح السريع»، و«تأليه» قيم السوق المتفلت بلا ضوابط، وكيف تغير أنموذج «القدوة» لدى الأجيال الشابة، وسادت أنماط سلوك وتفكير لدى جيل شاب، رأت أن (التقدم المهنى، له الأولوية على تكوين الأسرة) واعتقدت أن (جودة الحياة تتطلب عدد أطفال أقل).. إلخ.
إن بناء وتعزيز منظومة قيم، تُعلى من شأن وقيمة «الخصوبة»، والأسرة المتماسكة والمسئولية الاجتماعية والوطنية، والقيام بالواجبات تجاه الوطن، أكثر مما يُطلب من حقوق ومنح وغنائم. إن هذا البناء والتعزيز لا يُنجزان بين عشية وضحاها، إنما سيأخذان مسارا قد يكون طويلاً ومتشعبا، فى البيت والمدرسة والجامعة والنادى والمؤسسة والمجتمع المدنى، ومن الصعب عزل مفردات القيم عن بعضها، باعتبار أن القيم تنتظم عادة فى نسق قيمى هرمى مترابط، ومرتب حسب أهمية القيمة وأولوياتها.
إن تأخر الزواج والإنجاب، وتزايد ظواهر الطلاق، والاختيارات السلبية للأجيال الشابة فى قضايا الأسرة هى مسائل لا تتمّ من فراغ، وإنما تأتى فى إطار تحولات قيمية وثقافية، وتراجع فى بعض عناصر منظومة القيم الإيجابية، ونقص فى وعى الأجيال الشابة بمخزون هائل وثرى من قيم الأسرة فى موروثنا الوطنى والعربى والإسلامى.
نعم.. هى مسئولية وطنية. لا تخص دائرة حكومية هنا أو هناك، أو وزارة معينة أو قطاعا اجتماعيا أو ثقافيا أو إعلاميا. والقلق بشأنها مشروع، وتحدياتها كبيرة وثقيلة، وذات صلة بالنسيج الاجتماعى، وبحفظ المجتمع الوطنى البشرى، وبما يضمن استمراره وتماسكه وعافيته، وباعتبار أن التكاثر البشرى هو عنصر أساسى للحياة.
نعم.. إن صوت المجتمع، وفى «عام المجتمع»، مهم جدا لمواجهة تحديات «شيخوخة المجتمع»، والنهوض بإرادة الأجيال الشابة وبوعيها.
نقلا عن صحيفة «الخليج الإماراتية»

يوسف الحسن  مفكر عربي من الإمارات
التعليقات