التفكير فى إعادة الإعمار - نبيل الهادي - بوابة الشروق
الجمعة 7 فبراير 2025 1:09 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

التفكير فى إعادة الإعمار

نشر فى : الخميس 6 فبراير 2025 - 6:35 م | آخر تحديث : الخميس 6 فبراير 2025 - 6:35 م

منذ أكثر من عام وقع زلزال كبير فى منطقة الحوز المغربية مخلفا العديد من القتلى والجرحى ومدمرا الآلاف من المساكن والمبانى فى عدة قرى. قبل ذلك بعدة أشهر وقع آخر فى تركيا وجزء من سوريا مخلفا أيضا المئات من القتلى والجرحى ومتسببا فى دمار هائل للمدن والبنى التحتية وتشريد مئات آلاف من السكان المحليين. فى نفس شهر زلزال الحوز جرفت مياه إعصار دانيال سد مدينة درنة وأجزاء كبيرة من المدينة مخلفة مئات القتلى والجرحى. قبلها وقع انفجار مرفأ بيروت، وبعدها تم تدمير غزة على امتداد أكثر من خمسة عشر شهرا. كما عانى جنوب لبنان من تدمير كبير. ولم تكن مدن عديدة فى اليمن بعيدة عن التدمير الذى لم يتوقف بعد، كما تعانى العديد من مدن السودان من وطأة حرب غبية مستمرة من قرابة عامين، وبعد ثلاث عشرة سنة من التدمير تفتح سوريا صفحة جديدة للحياة الحرة.
• • •
الكوارث المتعددة حولنا سواء ناتجة عن حروب أو عن أحداث طبيعية تدعو للتفكير، وكما نُقل عن رئيس مجلس تصميم تركيا فى مقابلة معه فى لندن فإن المدن بعد الكوارث «تبدو وكأنها موضوع متخصص ولكنها ليست كذلك لأننا نعيش فى عالم من الكوارث والحروب، فربما ستقضى أزمة المناخ على المدن». المهم فيما قاله إن حضاراتنا الإنسانية تحتاج إلى أن تتعلم كيفية إعادة بناء مدننا مرة أخرى.
يمكننا أن نطور تلك الملاحظة إلى سؤال هام للغاية فى منطقتنا وهو كيف نعيد بناء مدننا (أو نطورها) بصورة تجعلها مرنة فى مواجهة الأخطار المتعددة المحتملة فى المستقبل القريب، والتى ينبغى علينا ألا نتجاهل احتمال وقوعها وإلا بتنا أسرى لتكرار يهدر الموارد المحدودة ويرهق المجتمعات المحلية بصورة قد لا تحتملها؟
تاريخيا كان التدمير الكبير للمدن وراء بعض من أكبر الابتكارات العمرانية وكان يبدو لى أن ابتكار هيبوداموس للتخطيط الشبكى فى مدينة ميلتوس (الموجودة الآن فى تركيا) هو نتيجة منطقية لإعادة البناء فى أسرع وقت. وفى العديد من المدن الإغريقية التى زعم أنها محيت من الأرض بواسطة جيش معادٍ (وإن لم تتوافر الأدلة الأثرية على ذلك) اتضح أن هذه المدن كانت أكثر مرونة وقدرة على العودة للحياة.
كان لحريق شيكاغو الكبير سنة ١٨٧١ والذى تسبب فى مقتل المئات وترك حوالى ثلث سكان المدينة بلا مأوى تأثير كبير للغاية تعدى حدود المدينة من الحوادث التاريخية التى أثرت على عمارة وعمران المدينة. فبعد إطفاء النيران تم إصدار القوانين التى تحتم استخدام مواد مقاومة للحريق فى البناء مثل الطوب والحجر. أما النتيجة الأكبر على تاريخ العمارة فكانت ظهور ما يعرف باسم مدرسة شيكاغو والتى استغنت إلى حد كبير عن الزخرفة لتقليل تكلفة البناء المقاوم للحريق. لكن النتيجة الأكبر والتى ظهرت بعد عدة سنوات كانت أول نظرية حديثة لتخطيط المدن والتى وضعها ابينيزر هوارد البريطانى الذى كان يعمل فى محاكم شيكاغو وقت الحريق الكبير. سمى نظريته «المدينة الحدائقية» والتى ربما تأثرت بها منطقة جاردن سيتى فى القاهرة (بالاسم فقط فى الأغلب).
• • •
نعود لأنطاكية عاصمة مقاطعة هاتاى التركية والتى كانت واحدة من أكثر المناطق تضررا بالزلزال الذى أودى بحياة أكثر من 50 ألف شخص فى تركيا. وقدرت الحكومة وقتها تكلفة إصلاح الأضرار بأكثر من 100 مليار دولار، أو حوالى 9% من الناتج المحلى الإجمالى. وفى مثل هذه المشاريع الضخمة قد يكون من السهل الوقوع فى الخطأ حيث يمكن إنشاء المبانى السكنية فى خلال عدة أشهر، ولكن النتيجة قد تكون «مسكنا ضخما» خاليا من التجارة أو الثقافة وحيث يتردد الناس فى العيش. وعلى النقيض من ذلك، يمكن للنشاط البشرى أن يعيد تأكيد نفسه بسرعة حتى فى المجتمعات المدمرة، مع ظهور المتاجر وسط الأنقاض ومدن الحاويات مثلما حدث فى هاتاى.
يستهدف الكنسورتيوم المسئول عن خطة إعادة الإعمار لمدينة أنطاكية مضاعفة المساحات الخضراء فى المدينة ثلاث مرات، ومضاعفة المساحات العامة مرتين، كما يأمل فى أن تصبح نموذجا عالميا لتجديد المراكز الحضرية التى تعرضت لتدمير واسع النطاق. وفى الوقت نفسه، سينخفض متوسط ارتفاع المبانى إلى خمسة طوابق، مقارنة بما كان عليه قبل الزلزال، مع توفير العدد نفسه من الوحدات السكنية. كما ستوفر المبانى الأكثر إحكاما وشبكات النقل المحسنة طرق هروب أسهل فى حالة الكوارث المستقبلية.
فى إطار تلك الرؤية أيضا يحاولون التعلم من تجربة اليابان التى شددت على أهمية الحصول على دعم الأطراف المحلية فى جهود إحياء المجتمعات فى أعقاب كارثة عام 2011. كما أعتقد أنهم يحاولون التعلم من مدن مثل نيو أورليانز فى لويزيانا الأمريكية التى دمُرت حديثا نتيجة إعصار كبير فى عام ٢٠٠٥ وكان الدرس الأهم هو هذا الالتزام بالاستدامة. نفذت نيو أورليانز عددا من المبادرات الخضراء مثل استخدام المواد المعاد تدويرها فى البناء والاستثمار فى الطاقة المتجددة، ولم تسهم هذه الجهود فى حماية البيئة فقط ولكنها أيضا ساهمت فى إيجاد العديد من الوظائف مما دعم الاقتصاد المحلى.
• • •
بالرغم مما يبدو من براعة مقترحات الاستشارى الأجنبى لمدينة أنطاكية إلا أن تفرد المنظومة البيئية المحلية والتى تتطلب معرفة محلية أساسا من الصعب للغاية أن تتوافر لدى الاستشارى الأجنبى مهما بلغت براعته هى النقطة الرئيسية التى لم يولِها المسئولون الأتراك انتباها كافيا. ربما كانوا يريدون إظهار اهتمامهم بمدينتهم من خلال تكليف الاستشارى الأجنبى والذى ربما كان من المهم وجوده، ولكن ليس بصفته قائدا أو موجها رئيسيا لعملية إعادة الإعمار. أيضا يعطى هؤلاء الأجانب اهتماما كبيرا للصور المستقبلية لاقتراحاتهم والتى بالرغم من أنها بلا شك مبهرة إلا أنها ربما تصرف الانتباه الواجب عن التحديات الرئيسية للمجتمع المحلى وعن التعقيد البالغ للتحديات المحلية.
برهن يوهان روكستروم فى معهد ستكهولم للمرونة فى عام ٢٠١٦ أنه لا يمكن فهم التنمية المستدامة بدون الارتكاز أولا على مكونات البيئة الطبيعة والتى بدونها لا يمكن البدء فى استهداف الأبعاد الاجتماعية أو الاقتصادية. وأوضح ذلك فى الرسم الشهير المسمى بكعكة الزفاف والذى بناء عليه يمكن أن نحدد التحديات الرئيسية التى يجب أن تتعامل معه أى محاولات جدية لإعادة الإعمار.
فى الرسم الشيهر «كعكة الزفاف»، تأتى فى الترتيب والأهمية الرابطة الرباعية التى تتكون من منظومات المياه والطعام والطاقة والمنظومة الطبيعية المحلية. من المفهوم بالطبع أن هناك احتياجات طارئة يجب تلبيتها فى أقرب وقت لكن المهم هنا ألا نقع فى فخ تلبية الطارئ فقط وألا نفكر فى المدى المتوسط والبعيد. ما تقترحه هذه التركيبة هو ضرورة البدء فى بناء قدرات محلية طبقا للموارد الطبيعية المتاحة مع العمل الدائم على تطوير ما يتم الوصول له. كما أنها تظهر بوضوح أهمية المنظومات الإيكولوجية المحلية فالمناطق على ساحل البحر مختلفة عن تلك التى توجد حول الوديان عن تلك الموجودة فى المناطق الصحراوية.
لا يمكن بالطبع تجاهل السياق السياسى والاقتصادى لإعادة الإعمار ولا يجب أيضا أن نقبل به كما هو لأنه ولا شك سيتغير ولا ينبغى أيضا أن نفرط فى التخيلات المثالية ولكن لا يجب أن نستسلم لإملاءات الواقع. كما لا يجب علينا أن ننظر فقط لإعادة الإعمار فى جوارنا كفرص عمل لشركات المقاولات والاستشارات المصرية لأننا وإن حققنا مكاسب على المدى القصير سنخسر ما يحمله إعادة الإعمار من فرص لإعادة التفكير فى البناء وارتباطه بالطبيعة والمجتمع، وما يحمله ذلك فى طياته من فرص كثيرة وكبيرة للابتكار والمساعدة الحقيقية لجيراننا والتى لاشك أنها ستفيدنا نحن أيضا فى السير على خطى التحول المطلوب للمجتمعات المحلية.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                            رسم للمخطط العام لمدينة انطاكية بواسطة الاستشاري البريطاني فوستر المصدر موقع ديزيين ٢٠٢٤

  


                                   رسم كعكة الزفاف وكيف يمكن استخدامه لتحديد أهمية وأولوية التحديات التي تواجه المجتمع في إعادة الإعمار

 

 

 

 

 

 

التعليقات