عن مصير الدولار! - محمود محي الدين - بوابة الشروق
السبت 19 أبريل 2025 4:13 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

عن مصير الدولار!

نشر فى : الأربعاء 16 أبريل 2025 - 7:10 م | آخر تحديث : الأربعاء 16 أبريل 2025 - 7:10 م

مع كل أزمة اقتصادية تعترض العالم يثور تساؤل مشروع عن مستقبل الدولار بصفته عملة دولية تُسوَّى بها المعاملات عبر الحدود، وفى كثير من الأحوال داخلها أيضًا، وتسعَّر بها المنتجات من سلع وخدمات، ويُلجأ إليها لحفظ القيمة والمدخرات عبر الزمن. وقد أطل الدولار منافسًا بعيدًا للجنيه الإسترلينى، منذ نحو مائة عام، مستندًا إلى قوة الاقتصاد الأمريكى الصاعد بقوة مقابل الإسترلينى الذى أعيَتْه الحرب العالمية الأولى، ثم تلتها الثانية بأعبائها وديونها.

 


ورغم الخسائر الاقتصادية للحربين العالميتين استمر الإسترلينى على عرش العملات الدولية بفضل الاعتياد عليه فى زمنه، ولعدم إدراك عمق ما أصاب بريطانيا من وهن. حتى أتت لحظتان فارقتان: الأولى مع صياغة اتفاق بريتون وودز فى يوليو 1944، الذى لم يشر إليه على أنه العملة المعيارية للمعاملات المالية لنظام ما بعد الحرب العالمية الثانية. اللحظة الثانية جاءت مع العدوان الثلاثى الغاشم على مصر، فيما تُعرف بأزمة السويس 1956، وكان الإسترلينى متعارفًا عليه وقتها بأنه عملة صعبة تشكل 55% من الاحتياطى الدولى. وقد أرغمت الولايات المتحدة بريطانيا وشريكتيها، فرنسا وإسرائيل، على وقف العدوان. فأدرك الناس أن ما عُرف وقتها بالعالم الحر له رأس جديد، وكان لعملة هذا الرأس أن تتمتع بممارسة ما أطلق عليه جيسكار ديستان، عندما كان وزيرًا فى الحكومة الفرنسية فى الستينيات، الامتياز السخى.
وعلامات هذا الامتياز الفياض فى عطاياه للولايات المتحدة أن تقترض بأقل تكلفة، وأن تسدد كل قروضها بعملتها المحلية التى تتحكم فى مطابعها، وأنه رغم عجز تجارتها فإنها لها أن تتمتع باستقرار نقدى، وتمارس من خلال سلطتها على هذه العملة الصعبة، التى ما زالت تشكل 60 فى المائة من إجمالى الاحتياطى الدولى، نفوذًا ماليًا، تعيَّن فى بسط هيمنتها على عالم ما زالت الولايات المتحدة فيه صاحبة الاقتصاد الأكبر، والجيش الأقوى، والتكنولوجيا الأحدث.
فإذا ما كان الوضع على هذا النحو فما بالنا برئيس الولايات المتحدة يخرج على العالم، بعد فوزه المدوّى فى انتخابات لم يطعن فيها أحد، بأن بلاده تتعرض منذ زمن لانتهاكات تجارية، وأنها ضحية «غش وسرقة واحتيال ونهب»! فما ندرى ماذا ترك رئيس أكثر الدول ثراءً لرؤساء أسهم فى إفقار دولهم النظامُ الدولى اللامتكافئ وأورثهم فقرًا مدقعًا، وأمراضًا عضالًا لسوء التغذية، وتخلفًا عن مكتسبات التقدم؟ يبدو أن هؤلاء لم يُحسنوا صنعًا فى الولايات المتحدة، كالذى أحسنوه فى أفريقيا وباقى بلدان عالم الجنوب!
قل ما تقوله فى دوافع وأساليب الإدارة الأمريكية، ولكن كما بسط لنا الأمر الاقتصادى الحائز جائزة نوبل، مايك سبنس، فى مقاله الأخير عن مواجهة العاصفة الترامبية: «أمريكا عازمة على تغيير هيكل التجارة العالمية، ومعها الاستثمار الأجنبى المباشر لمصلحة الاستثمار المحلى الأمريكى، وتشغيل العمالة الأمريكية». ولكن هذا الهدف يعترضه معوق كبير؛ وهو الإقبال على الأصول المالية الأمريكية من سندات وأسهم، ووضع الدولار عملةَ احتياطى دولى. ولن يكتمل تحقيق هدف قلب ميزان التجارة فعلًا إلا بأن تقلِّل متعمِّدةً جاذبية أصولها المالية الدولارية، بتقييد حساب رأس المال لميزان المدفوعات، وإلا ظل الأمر على ما هو عليه. ولتبسيط الشرح فإن التعهد الضمنى الأمريكى هو احترام المزايا النسبية؛ فتصدِّر إليها الدول منتجاتها وتقوم هى بتصدير ما يمكنها أيضًا من سلع زراعية وصناعية، وهذا يعكسه ميزان التجارة لميزان المدفوعات. كما تصدِّر وتستورد الولايات المتحدة خدمات كالسياحة والنقل واللوجيستيات، وهذا يعكسه الحساب الجارى لميزان المدفوعات. عجز الميزانين معًا يعوِّضه تدفق فى الاستثمارات، والقروض الخارجية. علمًا بأن إجمالى المديونية الأمريكية العامة المحلية والخارجية بلغت 36 تريليون دولار، إذن فَفَكُّ الاشتباك التجارى لن يكون إلا بتضحيات فى حسابات تدفقات رءوس الأموال، والتعامل مع المديونيات القائمة والقادمة.
وبهذا فإن ما بدأ بتسليح الدولار، باستخدامه فى العقوبات الدولية من خلال تجميد الأصول، ومنع استخدام آلية السويفت على روسيا وغيرها، ثم تلغيم قنوات التجارة من خلال التعريفة الجمركية بإعادة تعريفة عجيبة لمفهوم المعاملة بالمثل، ثم شل حركة منظومة المساعدات الإنمائية، ثم تقويض ما هو متعارف عليه بالنظام الدولى المتعدد الأطراف المبنى على قواعد حاكمة، وإحلاله بنهج فرض القوة.. قد بدد هذا كله ما تبقى من «نظام دولى»، أو قُلْ ترتيبات دولية للعلاقات الاقتصادية. فقد شهد النظام الاقتصادى الدولى اضمحلالًا منذ الأزمة المالية العالمية، بما صاحبها وتلاها من تراجع الطبقة الوسطى الأوروبية وازدياد مخاوفها على ما تمتعت به من مزايا وخدمات دولة الرفاهية، وتراجع آخر فى الطبقة الوسطى فى الولايات المتحدة، وازدياد إحباطاتها بتبدد الحلم الأمريكى فى تحقيق الثراء، مع زيادة حدة التفاوت والاستقطاب وعدم العدالة فى توزيع الدخل والثروة. ومع تحديات التنافسية وآثار الثورة التكنولوجية ومستجدات الذكاء الاصطناعى، لن تسلم هذه الطبقات من أذى لن يعالجه حتمًا تسليط جام الغضب على الأكثر كفاءة فى التجارة الدولية أو الأكثر جهدًا من العمالة الوافدة.
إن الإجراءات الأخيرة وإن استهدفت التجارة والاستثمار فهى فى واقع الأمر قد حطَّمت ما تبقى من قواعد الاقتصاد الدولى الموروث منذ الحرب العالمية الثانية بممارساته وآلياته. وسيبقى الدولار، إلى حين، حتى يأتى البديل أو البدائل العملية. فهو باقٍ ليس لقوة مطلقة فيه، بل لضعف نسبى فى بدائله، ولنا فى الجنيه الإسترلينى عبرة. وفى هذا كله تفاصيل سأتناولها فى مقال قادم.


نقلا عن جريدة الشرق الأوسط

التعليقات