لم يمر من هذا العام ربعه بعد، ولكن 2025 سيُذكَر فى التاريخ، فيما سيذكر به، بأنه من أعوام التحول الكبرى فى العلاقات الاقتصادية الدولية فى العصر الحديث، ورسم نهايات النظام الدولى الموروث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وتأتى هذه النهايات على يد القوى ذاتها التى وضعت أسس بداياته، وحققت أعلى مكاسب منه بهيمنتها على الاقتصاد العالمى ومؤسساته. أما البدايات لنظام جديد فلا تتضح معالمها بعد، فستتشكل بدفع القوى القائمة والصاعدة بعضها ببعض. فالنظام الدولى الحالى ليس أحادى القطب، رغم ما للولايات المتحدة من اقتصاد ضخم، وآلة عسكرية غاشمة، وتكنولوجيا متطورة، فقد اندثرت فورة ما بعد سقوط حائط برلين. ولا هو عالم ذو قطبين تدور فى فلكيهما بلدان العالم، باستثناء من استمسك منها بعدم الانحياز، كما كان الحال أثناء الحرب الباردة ومنافسة الاتحاد السوفييتى للولايات المتحدة. ووصف العالم بمتعدد الأقطاب يحمل من الافتراضات السخية أكثر مما يمنحه الواقع الفعلى لتوازنات القوى.
فالعالم يبحث عن نظام جديد، وليس هذا بجديد. فبهذا نادت عقول بمشارب مختلفة بنظام أكثر عدلاً وأعلى كفاءة وأفضل تمثيلاً لشعوب ودول العالم. وما زلت أتذكر محاضرة للدكتور إسماعيل صبرى عبدالله، الذى ألف كتابًا فى عام 1977 بعنوان: «نحو نظام اقتصادى عالمى جديد»، جاء فيها أن علاقة القوى بالضعيف مرت بثلاث مراحل منذ الثورة الصناعية: مرحلة الاستعمار الاستيطانى وكانت مرحلة ظلم وقهر للمستعمرات ونهب للثروات بمقابل فرض قوة القانون، قانون المستعمر لحفظ الأمن، والدفاع ضد أطماع قوى استيطانية أخرى، وتوفير الحد الأدنى للعيش، أو حد الكفاف، للشعوب المستعمرة. ثم جاءت المرحلة الثانية بعد حركات التحرر الوطنى ووهن الاستعمار بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهى مرحلة التبعية يرتبط بها التابع بالمتبوع من أحد المعسكرين الغربى أو الشرقى بالتجارة وكيانات اقتصادية مقابل حماية وتسليح ومساعدات مالية ومعونات وربما ببعض العلاقات الثقافية والمنح التعليمية. أما المرحلة الثالثة فالعلاقة فيها بين القوى والضعيف دارت بين الاستغلال والتبادل اللامتكافئ والتهميش إذا لم يعد هناك ما يمكن استغلاله.
ولما كانت السياسة هى ممارسة فن الممكن، خصوصا فى أعتى الظروف صعوبة وبؤسًا، تمكنت بلدان نامية من إتقان قواعد اللعبة الدولية جذبا للاستثمارات ودفعا للتصدير، ومن قبل ذلك حذقت مهارات وقواعد العمل من أجل التنمية، فاستجابت لها الأسواق انفتاحا لبضاعتها وتوسعت فيها أنشطة الشركات الكبرى إنتاجا وانتشارا. وبعدما كانت هذه البلدان مصنفة مما كان يعرف بالعالم الثالث أصبحت منتجاتها تضارع منتجات الدول المتقدمة جودة وتقل عنها تكلفة. فاستدعيت لمواجهتهم أفكار من أزمان غابرة لمن عرفوا بالميركانتيليين الذين سيطروا بآرائهم على السياسات التجارية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر. حيث اعتقدوا فى ضرورة مراكمة الدولة لثروتها بتقييد الواردات والتوسع فى تجارتها، إن خاضت فى سبيل ذلك حروبا لتوسيع الأسواق والسيطرة على الخامات، حتى تراكم مخزونها من الذهب بصفته مقياسا للثروة. وهو ما كان؛ حتى ثبت أن السياسات الحمائية والقيود على حركة التجارة من المدمرات للاقتصاد فى الأجل الطويل، إن تباينت آثارها فى الأجل القصير ببعض الجوانب الإيجابية المحدودة المتمثلة فى زيادة حصائل الجمارك، ولكن بخسائر فادحة على قطاعات الإنتاج التى ترتفع أسعار مدخلاتها المستوردة، وتتراجع نوعية منتجاتها لغياب المنافسة، كما ترتفع الأسعار على المستهلكين. فإذا بالصناعات المقصود حمايتها تتخلف وتتراجع عما كانت عليه فضلاً عن خسائر يتكبدها الاقتصاد والمجتمع بأسره.
وقد استرجعت دروس التاريخ تلك مع مطالعتى ورقة أصبحت شديدة الأهمية أعدها كاتبها ستيفن ميران العام الماضى، والذى عُيّن مؤخرا رئيسا لمجلس المستشارين الاقتصاديين للرئاسة الأمريكية. وهى تهدف كعنوانها إلى إعادة هيكلة النظام التجارى العالمى، ويسترشد بها أنصار «جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» فى تفسير أسباب إعلان رفع الرسوم الجمركية على الصديق قبل الغريم فى التجارة الدولية، وكيف يتحقق الأمران المتناقضان ليستمر الدولار فى هيمنته مع تخفيض سعره أمام العملات الرئيسية، من أجل زيادة تنافسية المنتج الأمريكى أمام منافسيه.
فى هذه الأثناء، ومع خضم القرارات التنفيذية من الرئيس الأمريكى وما تحدِثه من مربكات، أرى تحركًا إيجابيًا على المستوى الإقليمى الدولى، لطالما نبهت إلى أهميته فى مقالات سابقة بصفته مستوى عمليًا للتحرك للتعامل مع التقلبات الجيوسياسية العالمية. يتمثل هذا التحرك فى انطلاقات من القوى الوسطى على النحو الذى وصفه بإمعان أنور إبراهيم رئيس وزراء ماليزيا، رئيس الدورة الحالية لتجمع «آسيان» فى كيفية نهج دول عالم الجنوب مسارًا نحو المتانة والتطور الاقتصادى، رغم الأنواء الجيوسياسية المحيطة بهم وظروف المخاطر الوجودية واللايقين التى تشكلها تحولات فى النظام العالمى. لقد جعلت هذه التحولات من مزايا الارتباط المتبادل من خلال قنوات الاستثمار والتجارة عبئًا باحتمال تدهورها بغتة بتسليح التجارة وتلغيم الاستثمار. وتشكل مجموعة «آسيان» ذات السبعمائة من سكان عشر دول من الأعلى نموًا وتنوعًا، كتلة اقتصادية تتبوأ المركز الخامس على مستوى العالم، تطمح أن تسهم فى تشكيل نظام العالم الجديد، ببراجماتية واعية بأهدافها. وتمد سبل التعاون مع تجمعات أخرى فى عالم الجنوب لتعزيز مكانتها ونشدان منافع متبادلة. ولعل ما ستشهده قمة مرتقبة لـ«آسيان» مع دول مجلس التعاون الخليجى والصين، فى شهر مايو المقبل طور جديد لممارسة فن الممكن فى عالم شديد التغير.
نقلا عن جريدة الشرق الأوسط