مع صعود أدولف هتلر وحزبه النازى لحكم ألمانيا، فى عام 1933 وتنامى قوة ألمانيا واشتداد شهيتها لإعادة رسم خريطة أوروبا بالتهام أكبر مساحة ممكنة من أراضى الدول المجاورة، تبنت فرنسا وبريطانيا أكبر قوتين استعماريتين فى أوروبا فى ذلك الوقت مبدأ استرضاء هتلر و«السلام كخيار استراتيجى» لتجنب تكرار فظائع الحرب العالمية الأولى. وكانت نتيجة هذه السياسة توحش هتلر واتساع أطماعه بعد أن استولى على إقليم السار فى عام 1935 ثم أعاد عسكرة ألمانيا وتسليح جيشها وضم النمسا، وبعدها إقليم السوديت التشيكى ليتطلع إلى غزو بولندا فتقرر بريطانيا وفرنسا التصدى له وتنشب الحرب العالمية الثانية التى دمرت أوروبا وأودت بحياة أكثر من 50 مليون إنسان فى مختلف أنحاء العالم.
الآن تواجه منطقتنا العربية نفس السيناريو مع عدوان رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة وإعلانهم الواضح سعيهم لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وإقامة إسرائيل التاريخية التى تضم فلسطين من النهر إلى البحر ومعها أراض من مصر وسوريا ولبنان والأردن والسعودية والعراق بحسب تصريح لوزير المالية بتسئيل سموتريتش الذى قال أيضا إن «قدر القدس أن تمتد حتى دمشق»، فى حين نشر الكاتب اليسارى الإسرائيلى ديفيد ميلر الخريطة التى قال إنها الخريطة الرسمية تزعم أن «حدود دولة إسرائيل الكبرى تشمل أجزاء من مصر والعراق والسعودية وسوريا، إلى جانب كامل فلسطين التاريخية والأردن ولبنان».
فى المقابل تتمسك بعض الحكومات العربية بتأكيد أن «خيارنا الاستراتيجى هو السلام العادل» فى الوقت الذى تؤكد فيه إسرائيل سعيها للهيمنة على المنطقة العربية وتمارس فيه كل أشكال العدوان على الأراضى الفلسطينية المحتلة وجنوب لبنان وسوريا.
وإمعانا من مجرمى الحرب الذين يحكمون الكيان الصهيونى فى تأكيد استهانتهم بالدول العربية ومن ورائها الدول الإسلامية والعالم أجمع استأنفت مذابحها فى قطاع غزة بعد هدنة استمرت حوالى شهرين، فلم يخرج من العواصم العربية سوى بيانات الشجب والدعوة إلى وقف القتال دون الإشارة إلى أى موقف جاد يمكن أن يجبر الإسرائيليين على وقف المذابح. بل إن نتنياهو أعلنها صراحة أن ما يحدث فى غزة «ليس إلا البداية.. حققنا إنجازات تاريخية ونعمل على تغيير شكل الشرق الأوسط».
لذلك فالمطلوب من الدول العربية استخدام كل ما لديها من أوراق قوة للجم الكيان الصهيونى وكبح جماحه، خاصة وأن هذه الدول تمتلك الكثير من هذه الأوراق وليس كما يردد البعض أن موازين القوة كلها تميل لصالح إسرائيل وحليفتها واشنطن.
فالغرب الداعم للكيان الإسرائيلى وفى المقدمة منه أمريكا لن يتردد فى الضغط على هذا الكيان لوقف عدوانه إذا ما وجد من العالم العربى موقفا قويا يبدأ من التلويح بالتخلى عن السلام كخيار استراتيجى ما دامت إسرائيل لا تريده، وإعلان الدعم السياسى وليس العسكرى لحق الشعب الفلسطينى المشروع فى المقاومة المسلحة، والسماح للشعوب العربية بالتعبير عن رفضها للجرائم الإسرائيلية وتأييدها للفلسطينيين، والتهديد بإعادة النظر فى العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع تل أبيب، وغير ذلك من أوراق القوة الدبلوماسية.
وإذا كان قادة إسرائيل يعلنونها صريحة وجلية أن غزة ومعها باقى فلسطين ليست سوى البداية، والبقية تأتى على طريق إقامة إسرائيل الكبرى، فإن الدفاع الحقيقى عن الفلسطينيين فى غزة والضفة الغربية ودعمهم بكل السبل المتاحة فى مواجهة العدوان هو السبيل الوحيد حتى لا تأتى هذه البقية ويتحقق «السلام العادل».