هذا هو المقال السابع عشر الذي أعود من خلاله إلى الكتابة عن مشروعي الأدبي الأثير حول "الشخصية القبطية في الأدب المصري". والرواية الجديدة التي يعرض لها مقال اليوم صدرَت عن دار كتوبيا في عام ٢٠٢٤ بعنوان "سرايا مصر الجديدة" للكاتب حسام صبري مرسي- ذلك المصرفي المتمرّس الذي ترك عالم البنوك في عام ٢٠٢٠، واستهّل تجربته الأدبية بمجموعة "بالطو رمادي" ثم ثنّى بالسرايا.
•••
في الأصل كانت سرايا مصر الجديدة مملوكة لفكري باشا أبانوب سليمان، إلا أنها وُضعَت تحت الحراسة بعد ثورة يوليو وعُيّن عليها حارس هو ناظر الزراعة موريس بشاي ميخائيل، ثم استطاع هذا الأخير بانتهازيته وأساليبه الملتوية أن يستولي عليها. ليس هذا فقط بل إنه تزوّج من تحيّة ابنة فكري باشا وأنجب منها يوسف بطل الرواية وماجدة التي لا تلعب دورًا مؤّثرًا في الأحداث. تبدو السرايا وكأنها صورة مصغّرة من المجتمع المصري ككل، وفيها معظم أنماط الشخصيات التي يمكن أن نقابلها في حياتنا العادية. الباشا فكري صاحب الشخصية السويّة الذي يحتفظ بعلاقة جيدة مع الفلاحين، والذي نشّأ ابنته على طبعه فكانت تشرف بنفسها على تجهيز مائدة المحبّة التي يجتمع عليها المسلمون والمسيحيون في العِزبة قبيل شهر رمضان. وإسحاق الجنايني المخلص في خدمة أسرة الباشا والنقيض تمامًا لموريس ناظر الزراعة الذي كان يسخر من تغفيل الباشا في السّر ويظهر له الطاعة في العلن، والذي ترك زوجته مريضة وسافر وحين ماتت لم يُعنَ حتى بحضور جنازتها، وهو الذي يمكن أن نطلق عليه رجلًا لكل العصور أو عبده مشتاق، فهو ينسج علاقات متينة مع أي مركز صاعد للقوة سواء في السياسة أو في البزنس، ولا يقيم ولاءاته على أساس الدين بل على أساس المصلحة فكان مصطفى النحاس مثلًا أقرب إليه من مكرم عبيد.
• • •
في هذا العالم نشأ يوسف، ذلك الشاب الملتزم الذي يداوم على دروس الأحد ومعسكرات الكشّافة بانتظام حيث تعرّف على ماريا وتعلّق بها ثم اكتشف أنها متزوجة فانتهت قصة الحب وهي مازالت في بداياتها. عانى من قهر والده الذي صمّم على دقّ الصليب على رسغه مكايدةً لأمه وربما تنفيسًا عن شعوره بالدونية في مواجهة بنت الباشا، وميّز بينه وبين أخته ماجدة التي كان يدلّلها ولا يرفض لها طلبًا، وأرغمه على العمل معه في شركته. لكن يوسف الذي وجد نفسه غريبًا في عالَم لا يشبهه قرّر الهروب منه. هرب من العمل المشبوه مع والده بعد شهور قليلة، وهرب من عالم بنات الهوى الذي ورّطه فيه أبوه لفترة، وهرب من السرايا التي تربّى فيها إلى شقة المنيرة حيث يسكن المهندس ياسر أو الشيخ ياسر الطالب الذي يدرس معه في نفس الكلية. ربما يمكن القول إن ياسر كان بالنسبة ليوسف نموذجًا للشخصية المؤثّرة التي يفتقدها في نفسه، يتصدّر ياسر مظاهرةً طلابية في ساحة كلية الهندسة احتجاجًا على قرار الإدارة بضرورة شراء كارنيه لزوم دخول الامتحان، ويشارك في المظاهرات التي شهدتها الإسكندرية احتجاجًا على واقعة التعدّي على كنيسة القديسين ويلقى مصرعه برصاص الأمن. ففي مقابل قدرة ياسر على المواجهة والتحدّي وقيادة الحشود، كانت آلية الهروب هي الآلية التي اعتاد أن يلجأ إليها يوسف، أو ربما الأدّق القول الآلية التي لم يتربّ إلا عليها. ففي الفصل التاسع عشر من الرواية توجد فقرة أعتبرها فقرةً مفتاحية في فهم طريقة تنشئة الشباب القبطي داخل الكنيسة قبل ثورة يناير، وكيف بدأَت هذه الطريقة في التغيّر بعد الثورة. كان الشاب مينا دانيال أيقونة ثورة يناير أحد ثمار هذا التغيير، لكنه لم يكن وحده بالتأكيد. يقول يوسف في الفقرة إياها كيف أن شباب الكشَافة بعد الثورة "خرجوا بهمومهم خارج ذواتهم، يتكلمون في الشأن العام وأحوال البلد، والأعجب أن أبونا إسطفانوس يشاركهم ويشجعهم رغم أن العُرف السائد داخل الكنائس وقتها تسديد سهام النقد متخذين من الدين وسيلة لتثبيط الهمم على طريقة إلزم الكنيسة وودّع ما سواها". هنا نتبيّن أن يناير جاءت لتمّد جسرًا للعبور من الكنيسة إلى الشارع، ومما هو لاهوتي إلى ما هو سياسي، وأن آباء الكنيسة كانوا يشجعون هذا التحوّل. لكن يوسف بطل الرواية لم يكن من الذين عبروا فوق الجسر بل هو ظل وفيّا لمبدأ الهروب الخالد، حتى إذا قُتل الشيخ ياسر ومن بعده مينا دانيال وخلت الدنيا من حوله فكّر في الهروب إلى كندا لكن والده كان له بالمرصاد، أبلغ الأمن عن علاقته بمينا دانيال فأحبط له مخطّط الهجرة/الهرب.
• • •
في نسج بنائه الروائي يستخدم المؤلّف حيلًا سردية مختلفة، فتتنّوع مداخل فصوله الثلاثة والعشرين ومضامينها تنوّعًا كبيرًا. تارةً يكون المدخل عبارة عن نشيد وطني أو زجل، وتارةً أخرى يكون تصريحًا لمسئول أو اقتباسًا من كتاب أو صحيفة، وتارةً ثالثةً يكون واقعة تاريخية محددّة. هذه التنويعات الهدف منها هو تسليط الضوء على البيئة التي أنتجَت ثورة يناير، فالقهر الذي عبّر عنه زجل هشام الجخ "علمونا بالعصاية.. رضّعونا الخوف رضاعة"، والجزء المقتبس من كتاب "مقالات محظورة" لفهمي هويدي عن أن السلطة "التي تقوم على الابتزاز ويتمتّع أقطابها بامتيازات استثنائية لابد أن تخلَف جهازًا جشعًا ومرتشيًا"، وعبارة زكريا عزمي الشهيرة عن أن"الفساد في مصر للرُكَب"، وكنيسة القديسين وما جرى فيها… كل هذه المداخل للفصول كانت في الوقت نفسه هي مداخل للثورة. ثم يأتي إعلان ڤودافون في عام ٢٠١٠ بعنوان "القوة بين إيديك"، وكأن القصد منه هو القول "آدي الجَمل وآدي الجمّال". ولو دفعنا هذا الفهم للرواية خطوة أبعد وتأملنا عودة المؤلّف في الفصل السابع لواقعة دنشواي وفي الفصل التاسع لكتاب مكرم عبيد عن الفساد في الحكومة الوفدية- لقلنا إنه يقصد أن البيئة المصرية كانت محمّلة بأسباب الثورة منذ ما قبل ١٩٥٢، وأن الكثير من تلك الأسباب استمّر بعدها، علمًا بأن المؤلف لم يستخدم مصطلح ثورة في وصف حركة الضباط الأحرار، فموقفه منها واضح.
• • •
بعض الفصول ينطق بألسنة شخصيات الرواية، وبعضها يمتزج فيه ما هو حقيقي بما هو خيالي، كما في واقعة اللقاء بين يوسف موريس البطل ومينا دانيال الثائر في رحاب أحد معسكرات الكشّافة ثم في مظاهرة ماسبيرو التي انتهت بمقتل مينا. وهذا اللون من الكتابة موجود، وقبل فترة قرأت رواية رائعة للكاتب ولاء كمال بعنوان "كوش كو"، عن صبي نوبي يعيش في مطلع القرن العشرين ويلتقي بعظماء السياسة والفن والأدب من المصريين والأجانب في تلك الفترة ويحاورهم ويصاحبهم. لكن في "كوش كو" كان كله تاريخ في تاريخ مما جعل القارئ متأكدًا أن الموضوع محض خيال، لكن في "سرايا مصر الجديدة" حيث يتم اللقاء بين شخصية البطل وشخصيات معاصرة يظّل السؤال يلّح على القارئ: هل يوسف موريس شخصية حقيقية؟ وهل فعلًا التقى يوسف موريس مع مينا دانيال؟
• • •
إنها رواية تطلعنا عبر ما يقرب من قرن من الزمان على مجموعة من الأنماط الشخصية لأقباط مصر، وترصد تطوّر تفاعلاتهم داخل أسوار الكنيسة وخارجها بدرجة عالية من الحِرفية والتمكّن والتدقيق.