لم يكن قرارها بمواصلة دراساتها العليا في اليابان قرارًا اعتباطيًا، بل كان قرارًا مدروسًا اتخذّته نسمة واستقرّت عليه ونفذّته بعد تفكير عميق. أرادت أن تذهب إلى آخر بلاد الدنيا حيث يندر أن يعرفها أحد، وحيث ينطلق حب استطلاعها بلا مدى، ففي اليابان كل شئ مختلف: اللغة والطعام والتوقيت والعادات والملامح والحضارة والطقس. يبدو أيضًا أن الحظ لعب لصالحها مع أنها مقتنعة بأنها من أصحاب البخت القليل. أعلنَت كليتها عن منحة مقدمة من اليابان لدراسة الدكتوراه في جامعة طوكيو فتقدّمت إليها وفازت. لم يمسك فيها أحد ولم يثنها أحد ولم يؤثّر عليها أحد، في الواقع ليس لها أحد في القاهرة ليمسك ويثني ويؤثّر، وبالتالي كان طريقها سهلًا جدًا.
• • •
قامت بتعديل وضع الشنطة الثقيلة فوق ظهرها وهي في انتظار وصول أوبر يأخذها من شارع قصر النيل إلى شقتها في مصر الجديدة. أكثر من مرة كانت على وشك أن تتمرّد على هذه الشنطة بمحتوياتها الثقيلة التي تجبرها على السير بانحناءة بسيطة للأمام- ثم تراجعَت. قال لها الطبيب إن هذه هي الطريقة الوحيدة لتُخرج سامر من مسامها وقلبها وتطرده من حياتها، ففي هذه الشنطة تجتمع كل بقايا سامر: الرسائل والصور والروايات والدباديب وفلاشات الأغاني وأول هدية منه لها وبالعكس.. وأشياء خزعبلية تعني لها الكثير. لم يكن سامر جادًا في الارتباط بها… هل كان أصلًا يحبها؟ لا تملك إجابة قاطعة فلقد كان قادرًا على أن يرسل لها الإشارة وعكسها، وهي مثل العبيطة كانت تسير في اتجاه كل إشاراته، فإن قال لها إنه يحبها ولا يحتمل الحياة من دونها عادت إلى الاستوديو الذي تسكن فيه في حي واسيدا وهي في نفس حال عبد الحليم حافظ حين كان يريد أن يأخذ أصحابه وأهله وجيرانه بين أحضانه. وإن قال لها إن العمر كله أمامهما وإن خطوة الزواج خطيرة تحتاج إلى تأنٍ وتفكير ومعرفة وثيقة من كل طرف بالآخر، سارت على غير هدى وفي أذنها ترّن أغنية عبد الحليم حافظ تخونوه وعمره ما خانكم ولا اشتكى منكم. سخن وبارد وبارد وسخن هي درجات الحرارة التي كانت تتقاذف مشاعرها على مدار الأسبوع فتكاد تجّن.. من الأصل هي لا تحب هذا النوع من التقلّبات، لكنها القسمة والنصيب. في الواقع إن آخر ما كانت تتوقع أن تجده أصلًا في اليابان هو ذلك الحبيب المجهول الذي تحلم به، فبينها وبين نفسها كانت قد قرّرت ألا تتزوج إلا من مصري.. لبناني ممكن لأنها تحب لبنان وكل ما يأتي من لبنان.. أما أوروبي فلا وياباني لا، وفي الوقت نفسه فإن المصريين أقلية في اليابان، ومع ذلك ساقها القدر لتلتقي بسامر في هذه البلاد البعيدة. يدرس القانون وتدرس القانون، كلاهما من مصر الجديدة، عمرهما متقارب ومقطوعان من شجرة، ولهما نفس المستوى الاجتماعي.. باختصار من النادر أن ينظر المرء لشخص فيبدو وكأنه ينظر إلى نفسه. هل هذه ميزة؟ المفروض أنها كذلك، لكن في بعض الأحيان قليل من الاختلاف والتنافر يساعد على انجذاب المتناقضَين أحدهما للآخر.
• • •
وقف الأوبر أمامها فجأة فدخلَت بشنطتها ولم يكن ذلك بالأمر السهل. اقترح عليها سائق الأوبر أن تأخذ راحتها وتضع الشنطة إلى جوارها على مقعد السيارة فهو ليس في عجلة من أمره، شكرته في هدوء وقطعَت معه الكلام. أوصاها طبيبها النفسي ألا تزيح الشنطة عن ظهرها إلا عند الاستحمام والنوم، وتظل حاملتها وهي تسير وتأكل وتكتب وتشاهد التلڤزيون. في البداية كان طلابها في الجامعة يستغربون منها وهي تدخل عليهم السكشن وتشرح لهم بمنتهى التمكّن والشنطة تثقل كاهلها، ثم تغلّبت العادة على الدهشة. لا تتذكّر بالضبط متى شعرَت أن طريقها مع سامر مسدود، لكنها مقتنعة تمامًا بأنها كانت تؤجّل هذا النوع من المشاعر كلما هاجمَتها بينما هي تلوّن أظافرها أو تعّد لنفسها عشاءً من الجمبري على الطريقة المصرية لأنها لا تتلذّذ بالجمبري الياباني. لكنها تتذكّر بالتأكيد اليوم الذي قررَت فيه أن تواجه سامر للمرة الأخيرة. قالت له: حدّد لي ميعادًا للزواج، فناور. كرّرت عليه أنها غير معنية بحفل كبير وأثاث فاخر وليس من ورائها عائلة تطلب وتغالي، فردّ عليها بأن هذه ليست هي القضية. سألته: وما هي إذن القضية؟ صمَت لثوان فألقت في وجهه جملتها المحبوسة داخل صدرها: القضية أنك لا تريدني، وذهبَت.
• • •
لا يخرج الظفر من اللحم بسهولة وكان سامر مختلطًا بها لحمًا ودمًا. جرّبت أن تعتمد على نفسها باليوجا وبعد أسابيع أدركَت أنها تحتاج بشدّة إلى مساعدة خارجية. قرأَت عن الطبيب النفسي فلان الفلاني الشاطر في علاج الحالات المستعصية، وهي تعتبر نفسها ضمن هذه الحالات فقررَت أن تذهب إليه في أول إجازة صيفية. نصحها الطبيب نصيحتين: أن تسرع بإنهاء رسالتها حتى تقطع صلتها بالمكان، وكانت بالفعل قد انتهت منها وتنتظر المناقشة. وأن تحمل كل ذكرياتها مع سامر في شنطة وراء ظهرها، وقال لها إنها ستعاني من الثقل وتقاوم، وستتعثّر وتقاوم، لكن في لحظة معينة ستشعر بأن سامر وأشياءه صاروا عبئًا لا يُحتمل، وفي هذه اللحظة تكون قد تحرّرت. وحتى الآن هي مازالت في مرحلة التذمّر من الشنطة وحمولتها لكنها قادرة على الاحتمال. لم تحاول أن تتخلّص من بعض المحتويات الثقيلة فقد قال لها الطبيب إنها لو فعلَت تكون قد ضحكَت على نفسها. صعدَت إلى شقة مصر الجديدة في الطابق الثالث بدون أسانسير وارتمت على الأريكة بجوار الباب، تعاني من الحر والرطوبة والسلّم والشنطة ومن أنفاسها المقطوعة، ومع ذلك تحتمل.. لكن إلى متى؟ فكّرت أن تخلد إلى النوم لتتخلّص من الشنطة وتراجعَت.. مازال الليل فتىً كما يقولون.