عن رواية «الأولى لچيچي» - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الخميس 23 يناير 2025 11:25 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

عن رواية «الأولى لچيچي»

نشر فى : الخميس 23 يناير 2025 - 7:55 م | آخر تحديث : الخميس 23 يناير 2025 - 7:55 م

في هذا المقال أواصل رحلتي الممتعة عن تجربة المشاركة في لجنة تحكيم أعمال الأدباء الشبان المتقدمين لمسابقة ساويرس الثقافية في دورتها العشرين. وأعرض هنا لإحدى الروايات التي لفتت انتباهي بسبب طريقة معالجتها الجديدة لفكرة الشخصية الموازية. لكن قبل أن أفعل أوّد الإشارة إلى أن المجموعة القصصية الفائزة بالجائزة الثانية لهذا العام هي للكاتب الموهوب محمود يوسف وتحمل عنوان "الراقص مع الماريونت"، وهي مجموعة مفعمة بالخيال والفانتازيا وتتضمن حكايات بالغة التنوع، لذا وجب تصحيح ما ورد في مقال الأسبوع الماضي، فهذا حق الكاتب عليّ وهو شاب خلوق.
• • •
تحتمل رواية "الأولى لچيچي" الصادرة عن دار المحروسة للكاتب الشاب محمد حمامة أكثر من قراءة واحدة، ويتعمد الكاتب ذلك بوضوح من خلال بعض الألاعيب اللغوية التي تجعل الأمر يختلط على القارئ في تحديد شخصية الراوي، فعلى الرغم من أن الراوي هو الفيسبوك نفسه، إلا أن إشارة الكاتب للفيسبوك بصفة المؤنث كانت أحيانًا ما تصيب القارئ ببعض الارتباك. لكن مع التقدم في صفحات الرواية سيتضح أن الكاتب يتعمد كسر القوالب اللغوية من خلال استخدام الجمع مكان المثنّى في عدة مواضع كأن يقول "شخصان مختلفان يعيشون.. يذهبون .. تعجبهم"، واستخدام المؤنث في موضع المذكر كأن يقول"إحدى زملائها". وكواحدة تنتمي إلى الجيل القديم لا أتكيّف بسهولة مع هذا النوع من التمرد على قواعد اللغة العربية. وفي المقابل تعايشتُ بأريحية مع بعض التعبيرات النابعة من عالم الفيسبوك والتي بدت لي منسجمة تمامًا مع جو الحكاية، كأن يطري أحد أصدقاء چيچي تعليقها على موضوع ميراث المرأة في الإسلام قائلًا "يسلم كيبوردك"، فما هي حكاية چيچي هذه؟
• • •
چيچي هي شخصية وهمية اخترعتها فرح لتكون شخصيتها الموازية التي تعوّض بها كل ما ينقص شخصيتها، فإذا كانت فرح ابنة المنصورة فتاة مترددة ومتحفظة في علاقاتها الاجتماعية، فإن چيچي على النقيض منها فتاة جذورها من المنصورة لكنها تعيش في القاهرة، نصف مصرية-نصف أمريكية بحكم أن والدها مقيم في أمريكا، منطلقة وجريئة وحادة الطبع حتى إذا ما أحست تنمرًا من محدّثها ردت عليه الكلمة بعشرة، وهي ثورية تتعاطف مع ثورة شباب ٢٥ يناير على الفساد وتؤمن معهم بأن حكم "جيل العواجيز" لابد أن ينتهي. ومع ذلك فإن فرح حافظَت في الشخصية الموازية التي اختلقَتها على بعض صفاتها هي، وتلك بعض المشتركات بين الشخصيتين: مثل فرح تتميز چيچي بالبدانة لكن جسمها أكثر منها تناسقًا ودهونه موزّعة على أجزائه المختلفة بشكل معقول، وبين الشخصيتين يوجد الكثير من الأصدقاء والمجموعات الفيسبوكية المشتركة، كما يوجد فلفل في الموضوع، وفلفل هو القط الأسود الذي كان ونيس جدة چيچي وهو صديق فرح الذي اشترته بعد أن حلمت ذات ليلة بقطة لونها أحمر. وأهم من كل ما سبق أن الشخص الذي تعلّقت به فرح هو نفس الشخص الذي أرسلَت چيچي تطلب صداقته على الفيسبوك لتفتح معه صفحة جديدة بشخصيتها الموازية، كل ما في الأمر أن هذا الشخص تحوّل من وصفه بالـ"ولد العسّول" مع فرح لوصفه بـ"الحبيب" مع چيچي. هذا العسّول/الحبيب هو أيضًا من الأبطال المراوغين للقارئ في الرواية، فمن المفترض أنه تعرّف على چيچي وهو لا يدري أنها هي نفسها فرح حتى تصارحه هي بالحقيقة وتخبره بأن فرح هي چيچي وچيچي هي فرح. لكن هذا لم يمنع الولد العسّول/الحبيب من أن يتحدث مع صديقه عن كلتيهما بوصفهما شخصيتين مختلفتين فيقول مثلًا "فرح كويسة بس چيچي حاجة تانية"، وهذا يفتح المجال للقارئ أمام افتراض أن الولد العسّول/الحبيب قرر أن يساعد فرح على أن تعيد تقديم نفسها للعالم في قالب جديد وبشخصية جديدة، وربما لو واتته الفرصة لاخترع هو الآخر لنفسه شخصية موازية. الولد العسّول/الحبيب متردد مثل فرح، محدود العلاقات بالجنس الآخر مثل فرح، وهو مثلها مقهور وكل الاختلاف بينهما أنه مقهور بدراسة الطب التي فرضها عليه أبوه، أما فرح فإنها مقهورة ببدانتها. هل شعرت عزيزي القارئ ببعض الارتباك؟ إن كنت شعرتَ بذلك يكون الكاتب قد نجح.
• • •
شدّت شخصية چيچي الفيسبوك إليها بعد أن كان قد ملّ من الريتم البطئ لعلاقة فرح بالولد العسّول، فما أن ظهرَت چيچي بحيويتها وضجيجها ولسانها الطويل في أكاونت مضروب أنشأته لها فرح حتى راح فيسبوك يتتبع أخبارها وصورها واللايكات والقلوب الرايحة جاية منها وإليها. وعندما ظهرت بعض البوادر التي تشير إلى أن چيچي ربما تنتحر (أي تختفي) بعد أن كشف بعض الأصدقاء اللعبة وأدركوا أن البنت فرح كذبت عليهم وأنها هي نفسها چيچي، قرر الفيسبوك أن يتدخل ويرسل إنذارًا لزملائه في وحدة الإنقاذ بأن هناك شخصية نسائية تتعرّض للخطر، لكن أحدًا لم يأخذ تحذيره على محمل الجد. وكانت النتيجة أن أغلقَت فرح حساب چيچي أو قامت بعدم تفعيله بعد أن زاد التنمّر عليها، فهي لم تعد متهمة فقط بالكذب بل بالسرقة أيضًا لأنها سرقَت صور مدوّنة أمريكية شهيرة وزعمَت أنها صور چيچي. هكذا انتحرَت چيچي على وسائل التواصل الاجتماعي يأسًا من قدرتها على كسر القالب الذي وضعَتها فيه خصائصها الجسدية والأخلاقية. انتصر تمسّك العالم بالكتالوج القديم على رغبة فرح في صنع كتالوج جديد لنفسها بشخصية جديدة. ولتفهم عزيزي القارئ من رسالة الرواية هذه ما تريد أن تفهمه، فقد تكون قصة رفض التغيير متعلقة بالعالم الافتراضي لچيچي وفرح، وقد تكون متعلقة بالعالم الحقيقي الذي تعيشه فرح وكل فرح، هذا العالم الذي ينظر للتغيير باعتباره تابوهًا.
• • •
الرواية مثيرة وجديدة وعدا بعض التطويل الذي لم يضف لها كما في الحديث عن تفاصيل حياة صديقة فرح وشخصية عمّة چيچي، فإنها نجحَت في المحافظة على انتباهي من أولها لآخرها. ومع تبلوّر شخصية چيچي أكثر فأكثر في الرواية، ظهرَت لي في الخلفية ناهد بطلة رواية "بئر الحرمان" للكاتب الكبير إحسان عبد القدوس، وهي إحدى الروايات التي عالجَت مشكلة ازدواج الشخصية. انتقمَت ناهد للحرمان العاطفي الذي عانته أمها باختراع شخصية ميرڤت التي غرقَت في بئر المتعة الحرام. وكانت ميرڤت مثل چيچي ترتدي فستانًا لونه أحمر صارخ كرمزٍ للجرأة والتمرد على الواقع. وانتحرَت ميرڤت على يد الطبيب النفسي المعالج لناهد عندما عرِفت الانحراف السلوكي لشخصية ميرڤت، كما انتحرَت چيچي على فيسبوك عندما اكتشف أصدقاء فرح كذبها وفضحوها على الملأ. لكن عالَم إحسان عبد القدوس وأدواته غير عالَم محمد حمامة وأدواته تمامًا، فبين العالمَين أكثر من خمسين عامًا. إن رواية "الأولى لچيچي" هي رواية شبابية بامتياز، يظهر فيها الفيسبوك كقاتل وكمنقذ في الوقت نفسه، وهذا يشير إلى عمق تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في حياتنا. إنها رواية مثيرة وجديرة بالقراءة، وهذا ما جعلها تصل إلى القائمة القصيرة لروايات الأدباء الشبان في مسابقة مؤسسة ساويرس لهذا العام.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات