عودة أخرى لعالم ترامب وعوالم أخرى - محمود محي الدين - بوابة الشروق
الجمعة 21 فبراير 2025 11:56 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

عودة أخرى لعالم ترامب وعوالم أخرى

نشر فى : الأربعاء 19 فبراير 2025 - 8:00 م | آخر تحديث : الأربعاء 19 فبراير 2025 - 8:00 م

توجد حتمًا معضلة أمريكية عصية على الحل. ويبدو أن الرئيس الأمريكى الحالى دونالد ترامب يحاول حلها على حساب العالم بمن فيه من بلدان باتت تتبدل مواقعها بين كل عشية وضحاها، كأصدقاء وغرماء وأعداء، إلا قليلاً.
فما أُطلق عليه المربكات الترامبية تتوالى ببث مباشر لا يكاد ينقطع من البيت الأبيض. فتخبرنا صحيفة «سترايتس تايمز» السنغافورية بأن الرئيس ترامب قد عقد 34 لقاء إعلاميًا منذ توليه الحكم الشهر الماضى، كان منها 16 لقاء حيًا من المكتب البيضاوى، وهو أكثر من ثلاثة أمثال مما قام به فى الأسابيع الأولى من فترته السابقة. وتتنوع اللقاءات الإعلامية بين إجراءات جمركية حمائية ضد المصدرين لبلاده، وتضارب التعامل مع كارثة غزة بعروض مستهجنة ومنكرة، والحرب الأوكرانية بحوار مباشر مع روسيا تاركًا الأوروبيين فى محاولات للبحث عن مقعد على مائدة مفاوضات لم يُدعوا لها أصلاً، وشرح قرار رئاسى تنفيذى لتبديل مصاصات، أو قصبات، الشرب الورقية بالبلاستيكية؛ لأن «النوع الورقى ينكسر، كما ينفجر مع المشروبات الساخنة ولا يستمر طويلاً!».
لا شك فى قدرة الرئيس ترامب المدهشة على التواصل مع جمهوره، استدعى لها خبرته فى استضافته لبرامج تليفزيونية حية، ومعرفته بالمزاج الأمريكى الراهن المتقبل لنهجه، الذى أدى لنجاح حملته وفوزه فى الانتخابات التى حملته إلى سدة حكم الدولة ذات الاقتصاد الأكبر والجيش الأقوى والتكنولوجيا الأحدث. فما هى المعضلة الأمريكية إذن؟ إنها القوة فى الخارج والخلل فى الداخل؛ كما لخصها عنوان مقال الأكاديمى الأمريكى مايكل بيكلى فى العدد الأخير للمجلة المتخصصة فى الشئون الدولية «فورين أفيرز».
فالاقتصاد الأمريكى اليوم يشكل ربع الاقتصاد العالمى، وأصبح حجمه ضعف اقتصاد منطقة اليورو الأوروبية بعدما كان يعادلها إبان الأزمة المالية العالمية فى عام 2008. ويذكرنا بيكلى بأن متوسط ثراء اليابانى كان أكبر من الأمريكى بنحو 50 فى المائة فى منتصف التسعينيات من القرن الماضى، أصبح الأمريكى اليوم أكثر ثراءً بنحو 140 فى المائة. وتحظى أمريكا بممكنات القوة بنمو سكانها والمهاجرين إليها، وبمساحة شاسعة غنية بثرواتها ومصادر الطاقة والمياه والغذاء، وبمرونة أسواقها وقدرتها على التعافى السريع من الصدمات والأزمات، حتى لو كانت أمريكا هى المتسبب فيها كما حدث مع الأزمة المالية العالمية فتعافت منها وعاودت مسيرة النمو، بينما تعثرت أوروبا لفترة ممتدة، وما زالت تلملم تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية حتى اليوم.
هذا لا يعنى أن الاقتصاد الأمريكى خالٍ من المثالب فلنتذكر مديونيته العالية، وانخفاض إنتاجيته عن المستويات المطلوبة، وتعرضه لمعدلات تضخم غير مسبوقة منذ أربعين عامًا ثم تقلب أسواقه بفعل تغيرات حادة فى السياسة النقدية لتواجه تداعيات الجائحة تيسيرًا، ثم تقييدًا جاء متأخرًا لاحتواء أثر الإغداق النقدى.
ولكن المشكلة الكبرى التى تواجه الاقتصاد، بل المجتمع الأمريكى كله، هى التفاوت فى توزيع الدخل والثروة. تفاوت بين معاناة الريف ورخاء مدن الحضر، وتفاوت بين الأجيال، وتفاوت نوعى، وتفاوت إثنى، فضلاً عن التفاوت فى فرص الترقى الاجتماعى لتباين المهارات والاستعدادات. ومع عنفوان ارتفاع معدلات التضخم منذ عامين حذرت «بلومبرج» من أن التركيز على أزمة التضخم فى الحالة الأمريكية يغفل وقع أثره على الشرائح المختلفة فى المجتمع. فالطبقة المتوسطة فى حالة بائسة كما أن معدل نمو دخلها الحقيقى المتوقع حتى منتصف القرن وفقًا للمعطيات الراهنة لا يتجاوز 0.3 فى المائة سنويًا، فى حين من المقدر أن يستحوذ 1 فى المائة فقط على نحو ربع الدخل القومى، والأشد تطرفًا هو توزيع الثروة إذ سيستحوذ 0.01 فى المائة من شديدى الثراء على ربعها.
هذا يفسر حالة تتراوح بين الاحتقان المكبوت والغضب الظاهر، عبر عنها رقميًا بيكلى فى مقدمة مقاله وفقًا لاستقصاء رأى حديث: فثلثا الأمريكيين يعتقدون أن بلادهم ليست على الطريق الصحيح، و70 فى المائة منهم يصنفون الاقتصاد بأنه ليس جيدًا أو سيئًا، وثقة المواطنين انخفضت من 40 فى المائة عام 2000 لتصبح 20 فى المائة، وفى حين أن 70 فى المائة من الأمريكيين قالوا فى بداية القرن إن الولاء للوطن شديد الأهمية، أمست النسبة أقل من 40 فى المائة.
وكما ذكرت فى المقال الأول من هذه السلسلة، فإنه عندما تصاب الاقتصادات بتراجع فى مؤشراتها الحيوية يلجأ المسئولون عنها ذوو التوجهات الشعبوية إلى استهداف التجارة الدولية والعمالة المهاجرة. والمربكات الترامبية صالت وجالت فى هذين المجالين، بآثار سلبية لن تعفى المتسبب فيها من زيادة فى التضخم وتراجع فى التنافسية لارتفاع تكلفة العمل. وإذا كان الوضع المحلى قد دفع إلى اختيار صاحب هذه المربكات فى انتخابات حرة؛ فإن خشية التراجع أيضًا عن الصدارة الدولية يدفع إلى مزيد من المربكات الأخرى، ومنها ما له انعكاسات شديدة الضرر على تلك الصدارة بتهديد مقوماتها وفقدان ثقة الحلفاء السياسيين والشركاء الاقتصاديين.
ومن اللافت للاهتمام انتشار كتابات، تعبر عن حالة حرب تجارية، فى طرق إلحاق الضرر بسلع وخدمات وحقوق ملكية أمريكية بأخف الأضرار على من يلجأ لهذه الطرق، وتنتشر هذه الكتابات فى دول اعتبرت تاريخيًا أنها فى خندق واحد مع الولايات المتحدة. وستتضرر بلدان نامية بتداعيات سلبية جراء تراجع النمو واضطراب التجارة الدولية وانخفاض الاستثمار وارتفاع تكلفة التمويل وزيادة سعر صرف الدولار، وتراجع المساعدات الإنمائية.
لذا تُستدعى اليوم بكثرة مقولة المؤرخ الإغريقى ثوقيديدس بأن «الأقوياء يفعلون ما يريدون والضعفاء يتحملون ما لا مفر منه».
نقلا عن صحيفة «الشرق الأوسط»

التعليقات