تأتى هذه الكلمات بعد ساعات من تنصيب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ليبدأ فترة ثانية، وأخيرة له وفقًا للدستور الأمريكى، رئيسًا للدولة الأكبر فى العالم اقتصاديًا وعسكريًا وتكنولوجيًا. ومثلما توقعت الدوائر السياسية والاقتصادية، بدأ ترامب ولايته بعشرات من المراسيم والأوامر التنفيذية، التى تترجم ما تعهد به أثناء حملته الانتخابية التى قادته إلى البيت الأبيض. وتتناول هذه المراسيم الرئاسية -فيما تتناوله- إجراءات لمكافحة المهاجرين غير الشرعيين الذين يقدَّر عددهم بنحو 11 مليون مهاجر، واستخدام غير مسبوق للتعريفة الجمركية فى مواجهة الاستيراد.
وتأتى هذه الإجراءات مع توجه للمرونة المالية بتخفيض للضرائب، وزيادة الإنفاق لتحفيز الاقتصاد المحلى، فضلًا عن رفع القيود عن أنشطة مثل النفط والغاز الطبيعى والقطاع المالى والأصول المالية المشفرة «الكريبتو» التى تشمل «بتكوين» وأخواتها. وهذه باختصار هى ملامح «الاقتصاد الترامبى» أو ما بدأ التعارف عليه بمصطلح «ترامب ــ نوميكس».
تحمل هذه التوجهات ما تحمله من خصائص اقتصاد عالم ترامب، ولكن الأهم مدى تطبيقها وأثره. فإجلاء المهاجرين غير الشرعيين له آثاره على سوق العمل وتكلفة الإنتاج، والتعريفة الجمركية هى ضريبة على المستهلك ودعم لمنتج قد لا يتمتع بالتنافسية، ولها أثر تضخمى، وقد تواجَه بالمعاملة بالمثل. والتيسير المالى يزيد من عجز الموازنة والديون والتضخم، ورفع القيود بلا ضوابط يسبب أزمات فى الأسواق.
وتأتى الولاية الجديدة لترامب فى عالم يلملم ربع القرن الحادى والعشرين ومعدلات نمو اقتصاده تتراوح بين 2.7 فى المائة و3.3 فى المائة وفقًا للبنك الدولى، والتوقعات الصادرة مؤخرًا عن صندوق النقد الدولى التى جاءت أعلى من تقديرات البنك الدولى للعامين الحالى والقادم.
وبعد تعرض العالم لمعدلات شديدة الارتفاع للتضخم غير مشهودة منذ 40 عامًا، بدأت معدلات التضخم العالمية فى التراجع إلى 4.2 فى المائة، بعد جهود مضنية وتكاليف مرتفعة لتخفيضه؛ خصوصًا لما ترتب على ارتفاع أسعار الفائدة من زيادة فى أعباء التمويل وتكاليف الاستثمار والديون. ورغم انخفاض معدلات التضخم، بوصفه شرطًا ضروريًا لتحسن مستوى المعيشة، فإن الشروط الكافية لهذا التحسن لم تتحقق؛ فالدخول لم ترتفع بما يتجاوز التكاليف المتراكمة لشراء السلع والخدمات الأساسية.
بدأت البلدان النامية هذا القرن متطلعة لتضييق الفجوات الضخمة بينها وبين البلدان المتقدمة، وحققت تقدمًا مشهودًا فى السنوات الأولى من هذا القرن لتشكل مجتمعة -وفقًا لتقديرات تقرير البنك الدولى عن آفاق الاقتصاد العالمى- نصف الناتج العالمى، بعدما كانت تمثل ربعه فقط فى بداية القرن. ولكن منذ الأزمة المالية العالمية فى 2008 تراجعت معدلات النمو من نحو 6 فى المائة فى العقد الأول من القرن إلى 5 فى المائة تقريبًا فى العقد الثانى، إلى 3.5 فى المائة. ومع انخفاض مستمر لمعدل نمو متوسطات الدخول فى البلدان النامية عن معدلات نمو المتوسطات فى الدول المتقدمة، أنَّى لها تحقيق أهداف اللحاق بها؟
وكيف سيتيسر للبلدان النامية سلوك سبيل التقدم، وقد كبلتها الديون، وعجزت مواردها المحدودة -خصوصًا بما تنفقه منها على خدمة الديون- عن تغطية متطلبات الخدمات الرئيسية، ومن أهمها التعليم والرعاية الصحية؟ وفى ظل الانكشاف الاقتصادى لكثير من هذه البلدان للاستيراد وانحسار نمو صادراتها، واعتمادها المفرط على الاقتراض الخارجى، تجدها أكثر عرضة لمثالب الصراعات الجيوسياسية، وما تسببه من تفتيت اقتصادى واستقطابات على المستوى العالمى. فقد تراجعت تدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر لنصف ما كانت عليه فى العقد الأول، وزادت قيود التجارة الدولية 5 مرات عما كانت عليه فى العقد الثانى.
ونتيجة لهذا كله، فإنه بعد سنوات محدودة من النمو المطَّرد الذى ضيَّق الفجوة بين دول العالم المتقدم وعالم الجنوب، وزيادة التطلع نحو التقارب الاقتصادى بين العالمَيْن، ازداد اتساع الفجوة، وانقلب التقارب المنشود إلى تباعد ومزيد من التفاوت.
وبين البلدان المتقدمة تأتى الولايات المتحدة فى المقدمة من حيث النمو الاقتصادى، مع زيادة توقعات ارتفاعه ليصل إلى 2.7 فى المائة، مقارنة بنمو لا يتجاوز 1 فى المائة فقط فى الاتحاد الأوروبى. وتشير توقعات صندوق النقد الدولى إلى استمرار التفوق النسبى للولايات المتحدة مقارنة بالاقتصاد الأوروبى الذى يعانى من تراجع النمو الصناعى، وارتفاع تكلفة الطاقة؛ حيث تبلغ أسعار الغاز الطبيعى 5 أمثال أسعاره فى الولايات المتحدة. وليس بمستغرب فى هذه الأحوال أن تتراجع ثقة المستهلكين فى أوروبا، وأن يخرج آخر تقرير مقدَّم للاتحاد الأوروبى عن التنافسية، المشهور بتقرير ماريو دراغى رئيس الوزراء الإيطالى الأسبق، ليحذر من مخاطر وجودية تهدد الاتحاد، إن لم توجَّه استثمارات كافية خصوصًا فى أنشطة البحث والتطوير وفى مجالات التكنولوجيا والاستدامة، وأمن الطاقة والدفاع.
وها قد عاد ترامب بعالمه الذى لا تقل أهمية عن توجهاته الاقتصادية طريقة إدارته لها. فاستنادًا إلى فترة ولايته الأولى وإرهاصات الثانية، هى إدارة سيغلب عليها نهج إبرام الصفقات، وترقُّب وصُنع الفرص واستغلالها، وسرعة تبدُّل المواقف، وفقًا لأوجه المصلحة فى الأجل القصير دون التزامات مقيدة، والمناورة للتعامل مع أى قيود مؤسسية أو سياسية.
يمكن تصنيف الإدارة الجديدة -باعتبار المرشحين لمناصبها العليا- إلى 3 معسكرات متداخلة: معسكر «أمريكا أولًا» من ذوى الميول الشعبوية، ومعسكر قيادات الشركات التكنولوجية الكبرى أصحاب الطموحات التوسعية غير المحدودة، ومعسكر أرباب الخبرات السابقة فى الإدارة العارفين بأساليب عمل مؤسسات الدولة. ولكن يفوق هذه التصنيفات الصلاحيات الدستورية التى تملكها الرئاسة، وأسلوب الرئيس ترامب غير التقليدى فى الحكم، وقدرته الشخصية على التعبير عن توجهاته، وتغيير مساراته.
نقلاً عن «الشرق الأوسط»