نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية مقالا لخبير الاقتصاد العراقى وليد خدورى، تناول فيه أسباب توجه شركات النفط الكبرى نحو التركيز على النفط والغاز من جديد، وذلك بعد سنوات من الاستثمار فى الطاقات المستدامة... نعرض من المقال ما يلى:
أدى التسرع فى تنفيذ «تحول الطاقة» من قبل الدول المتقدمة لتحقيق «تصفير الانبعاثات» بحلول منتصف القرن، بحسب «اتفاقية باريس لمكافحة التغير المناخى» فى عام 2015، إلى اختلال فى توازن الاستثمارات العالمية فيما بين الطاقة الهيدروكربونية من جهة والطاقات المستدامة من جهة أخرى، الأمر الذى أدى بدوره إلى اختلال فى إمدادات الطاقة وبروز ردود فعل محذرة من الأخطار الناجمة عن الاستمرار فى هذه المسيرة فى حال استمرارها دون إعادة النظر فيها.
برزت ثلاثة أمثلة خلال الأسبوعين الماضيين تدل على الاهتمام المتزايد باسترجاع أولوية الاستثمار فى القطاع النفطى، لمحاولة نشوء «سلة طاقة متنوعة المصادر» تستطيع الاستفادة القصوى من مصادر الطاقة المتوافرة عالميا، وتزويد المستهلكين الطاقة بصورة مستمرة دون انقطاعات وبأسعار تنافسية.
فقد أعلنت شركة «بريتش بتروليوم» (بى بى) أنها ستعود إلى عملها الأساسى الذى تأسست الشركة من أجله، وإعطاء الأولوية لصناعة النفط والغاز، وقالت إنها ستستمر فى إلقاء النظر على الطاقات المستدامة فى الوقت نفسه، لكن بخفض الاستثمارات فى هذا القطاع الطاقوى الجديد. وذكرت أن «التفاؤل فى مسيرة تحول طاقة سريعة لم يكن فى محله، وقد ذهبنا بعيدا كثيرا فى هذه المسيرة، وبسرعة».
أضافت «بى بى»: «لقد تبنينا مسيرة الطاقات المستدامة بجدية وحزم، وحوّلنا استثمارات من النفط والغاز إلى الطاقات المستدامة. لكن، نظرا لضخامة التكاليف، والتغير فى سياسة الدعم الحكومية الذى تعتمد عليه صناعة الطاقات المستدامة (بالذات تغير السياسة الأمريكية فى عهد الرئيس ترامب، حيث شركة بى بى مستثمرة ضخمة فى القطاع النفطى الأمريكى)، وزيادة تكاليف الطاقة للمستهلكين، لذا فإن قناعتنا بضرورة العودة إلى الأساسيات (الطاقة الهيدروكربونية)».
و«بى بي» ليست الأولى أو الوحيدة التى تتبنى سياسة إعادة النظر فى سياستها لتشييد الطاقات المستدامة. فقد سبقتها شركتا «شل» الأوروبية و«إكوينور» النرويجية. تشابهت الأسباب لإعادة النظر نحو الطاقات المستدامة لدى الشركتين مع تلك لدى «بريتش بتروليوم»، وهي: الصعوبات التى واجهتها أسواق الطاقات المستدامة (عدم التمكن من الاستفادة القصوى لطاقتى الشمس والرياح)، والتكاليف المرتفعة لتشييد هذه الصناعة الحديثة (بسبب التضخم العالى فى الدول المتقدمة) ومن ثم ارتفاع أسعار الكهرباء والتدفئة.
• • •
من الجدير بالذكر، أن الشركات النفطية الأوروبية تعمل تحت أوضاع أصعب بكثير من الشركات النفطية العالمية الأخرى، نظرا إلى الدور الريادى لأقطار السوق الأوروبية المشتركة وتشريعاتها التى حاولت تنفيذ مسيرة «تحول الطاقة» بأسرع وقت ممكن، مما يعنى فرض شروط بيئية أشد قساوة على الشركات الأوروبية. وقد برز هذا الأمر خلال الأشهر الماضية فى أوروبا أثناء مظاهرات المزارعين الأوروبيين وشكواهم عن تحمل أعباء مالية أكثر بكثير على منتجاتهم الزراعية الأعلى سعراً من تلك المستوردة من دول أمريكا اللاتينية، مثلا، التى لا تنفذ بنود اتفاقية باريس 2015، كما تقوم بذلك الأقطار الأوروبية.
أما فى حال الولايات المتحدة، حيث أضخم استثمارات نفطية لشركة «بى بى»، مثلا، فقد استفادت الشركة البريطانية من الدعم الذى حصلته أثناء عهد الرئيس جو بايدن، المتعاطف، هو وحزبه الديمقراطى، مع حركة مكافحة تغير المناخ. لكن هذا الوضع تغيّر كليا فى عهد ترامب، إذ أصبحت الطاقات المستدامة عبئاً على الشركات، نظرا إلى تقليص أو إيقاف الدعم الحكومى عنها، الأمر الذى يزيد من تكاليف نفقاتها، ومن ثم زيادة الأعباء السعرية للمستهلك الأمريكى.
• • •
تعتزم «بى بى» خفض استثماراتها فى الطاقات المستدامة وزيادتها فى الصناعة النفطية. إذ تعمل على زيادة استثماراتها السنوية فى النفط والغاز حوالى 20 فى المائة، أو زيادة الإنتاج السنوى لما يتراوح بين 2.3 مليون برميل يوميا و2.5 مليون برميل يوميا، بحلول عام 2027. هذا سيعنى، بدوره، زيادة قيمة الاستثمارات النفطية ما بين 1.5 مليار دولار ومليارى دولار سنوياً، وذلك فى ضوء شعار ترامب «احفر، عزيزي، احفر». وفى نفس الوقت، تعمل «بى بى» على خفض الاستثمارات فى الطاقات المستدامة سنويا على الصعيد العالمى ما بين 1.5 مليار دولار ومليارى دولار. وكانت «بى بى» تعهدت عام 2020 خفض استثماراتها النفطية حوالى 40 فى المائة، وزيادة استثمارات الطاقات المستدامة فى الوقت نفسه بنسبة 25 فى المائة بحلول عام 2023. أما الآن فقد قررت إعادة النظر فى هذه السياسة، وقرارها الجديد هو إعطاء الأفضلية الاستثمارية للطاقة الهيدروكربونية بدلاً من الطاقات المستدامة.
• • •
من جانبه، ذكر الرئيس التنفيذى لشركة «أرامكو السعودية» أمين الناصر فى مؤتمر «سيرا ويك» فى هيوستن، أنه «من الضرورى إعادة التفكير فى خطط التحول بمجال الطاقة والتوقف عن التركيز على عناصر التحول التى أخفقت»، مشدداً على «الحاجة إلى الاستثمار فى الوقود الأحفورى لتلبية الطلب العالمى».
أضاف الناصر: «لقد حان الوقت للتوقف عن تعزيز الفشل»، مشيرا إلى وقود «الهيدروجين الأخضر، كمثال على الوقود الذى كان محور سياسات تحول الطاقة. ولكنه لا يزال مكلفا للغاية بحيث لا يمكن استخدامه تجاريا على نطاق واسع».
وقال الناصر إن «أرامكو» استثمرت أكثر من 50 مليار دولار فى عام 2024 فى مشاريع الطاقة التقليدية والمتجددة، مضيفا أنها تستهدف الاستثمار فيما يصل إلى 12 ميجاواط من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بحلول عام 2030.
تدل سياسة السعودية الاستثمارية هذه، إلى «سلة طاقة متعددة المصادر» يلعب فيها النفط دورا مهما، إلى جانب استهلاك المصادر الأخرى.
• • •
من جانبها، تشارك الشركات الصناعية الهندية الخاصة كبرى شركات السيارات الكهربائية العالمية لإنتاج السيارات الحديثة هذه لتلبية الطلب الداخلى والتصدير. كما تعمل الهند، وهى واحدة من كبرى الدول المستهلكة للنفط، على كبح التلوث المناخى فى مدنها المكتظة بالسكان. لكن، رغم هذه الإجراءات، تحاول الهند جاهدة زيادة إنتاجها النفطى المحدود الكمية حاليا. وفى الوقت نفسه، تسعى الهند إلى زيادة طاقتها الإنتاجية النفطية، إذا أمكن. فقد تبنى البرلمان الهندى مؤخرا قانونا يهدف إلى تبسيط وتشجيع الاستكشاف النفطى لزيادة الاستثمارات فى هذا القطاع. تشمل بنود القانون الجديد توحيد الرخص فى جميع عمليات الاستكشاف النفطي. من ثم، فالحاجة الآن هى لرخصة واحدة للاستكشاف، بدلاً من رخصة لكل مرحلة من مراحل الاستكشاف، وما يشكله هذا من عراقيل بيروقراطية وتأخير فى العمل، هذا بالإضافة إلى «تسهيلات أخرى» لتشجيع الاستثمار فى صناعة الاستكشاف البترولى الهندى.
يشكل القانون الهندى النفطى الجديد، مثالاً آخر لدولة اقتصادية كبرى تعمل للحصول على سلة طاقات متنوعة، دون منع طاقة محددة، كما هو التصور السابق.
• • •
من ثم، فإن الطريق الذى سيسلكه العالم مستقبلاً، وبناءً على تجربة السنوات الماضية، سيعتمد على «سلة مشتركة المصادر» تتنافس فيها الأسواق على المصادر الطاقوية المستقرة الإمدادات والأسعار المعتدلة، بدلاً من الاعتماد على مصدر طاقوى واحد أو اثنين بأسعار باهظة.