مع تولى الرئيس دونالد ترامب سُدة الرئاسة الأمريكية يوم الإثنين الماضى، اتضحت ملامح سياسته التجارية، التى تعتمد على فرض تعريفات جمركية واسعة على الواردات القادمة من دول مثل الصين والمكسيك وكندا. ورغم دور الحمائية التجارية فى تعزيز الاقتصاد الأمريكى من خلال معالجة العجز التجارى، وتقليل الاعتماد على الواردات، وتحفيز الإنتاج المحلى؛ فإنها ستسفر عن تأثيرات محتملة تتجاوز حدود الداخل الأمريكى لتصل إلى الاقتصاد العالمى وسلاسل التوريد الدولية. ومن المحتمل أن يؤدى تصاعد الحمائية التجارية فى عهد ترامب ليس فقط إلى تباطؤ نمو الاقتصاد العالمى، وإنما زيادة حدة التوترات الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والقوى الاقتصادية الكبرى.
• • •
يعكس قرار الرئيس الأمريكى المنتخب بفرض تعريفات جمركية على الواردات الأمريكية من كندا والمكسيك، جملة من الدوافع الاقتصادية والأمنية والسياسية، يتمثل أبرزها فى مواجهة العجز التجارى، حيث يشكل الخلل التجارى الكبير مع دول المكسيك إحدى أكبر القضايا التى يسعى ترامب لمعالجتها. ويرى ترامب أن تقليص العجز التجارى سيعزز استقرار ومكانة الاقتصاد الأمريكى، فمع فرض تعريفات جمركية مرتفعة على الواردات القادمة من هذه الدول، يمكن تحفيز الشركات الأمريكية لتصنيع منتجاتها داخل الولايات المتحدة؛ ومن ثم تحقيق مكاسب اقتصادية لا تقتصر فقط على خفض الواردات وإنما تنشيط القطاعات الصناعية وتوفير مزيد من فرص العمل.
وتشكل هذه السياسات جزءا من الوفاء بوعود ترامب الانتخابية لإنعاش الصناعات التقليدية المتضررة من سياسة الانفتاح التجارى مثل التعدين والصلب. ويعتبر ترامب أن تعزيز الإنتاج المحلى قضية مركزية تُسهم فى زيادة الدعم الشعبى له بالولايات المعتمدة على الصناعات التحويلية مثل بنسلفانيا وأوهايو، والتى شهدت زيادة طفيفة فى الوظائف خلال فترة رئاسته السابقة.
ومع ذلك، لا يزال العجز التجارى السلعى الأمريكى مع الصين كبيرا، رغم انخفاضه فى السنوات الخمس الأخيرة، بالغا قرابة 270 مليار دولار فى عام 2024، وفقا لبيانات مكتب الإحصاء الأمريكى، ويعتقد ترامب أن التعريفات الجمركية المرتفعة يمكن أن تقلل هذا العجز لحد كبير، لكنه يواجه تحديا فى تحقيق ذلك دون الإضرار بالمستهلكين والشركات التى تعتمد على الواردات.
ولا تهدف سياسة الحمائية التجارية فقط إلى تحقيق مكاسب اقتصادية، بل تُستخدم كأداة ضغط سياسى من قبل ترامب. فمع الصين، يسعى الأول لمعاقبة بكين على ما يعتبره ممارسات تجارية غير عادلة مثل سرقة الملكية الفكرية والتلاعب بالعملة المحلية (اليوان الصينى). أما مع المكسيك، فإنه يربط العجز التجارى بتفاقم تيارات الهجرة غير الشرعية القادمة من الأولى؛ ومن ثم يستخدم التعريفات كوسيلة ضغط من أجل إجبار الدولتين للتعاون مع الإدارة الأمريكية الجديدة فى هذه القضايا.
يُخطط ترامب لاستغلال التعريفات الجمركية أيضا كورقة ضغط لإعادة التفاوض على الاتفاقيات التجارية ــ الثنائية أو متعددة الأطراف ــ لصالح الولايات المتحدة. فمن خلال فرض تعريفات مرتفعة، يمكنه دفع الدول الشريكة لتقديم تنازلات وضمان شروط تجارية أكثر ملاءمة للاقتصاد الأمريكى. مثل هذه الاستراتيجية تم اختبارها خلال مفاوضات تعديل اتفاقية «نافتا»، حيث استطاع ترامب فرض شروط جديدة على المكسيك وكندا؛ مما أدى إلى توقيع اتفاقية التجارة الحرة الجديدة «USMCA» فى عام 2020، ويُظهر ذلك كيف يمكن للسياسات الجمركية أن تكون وسيلة ضغط لتحقيق أهداف سياسية وتجارية أوسع.
• • •
أثارت سياسات ترامب التجارية خلال فترة رئاسته السابقة الكثير من الجدل؛ حيث نجح فى تعديل بعض الاتفاقيات التجارية مع بعض الشركاء؛ ومع ذلك، واجه انتقادات شديدة بسبب التوترات التجارية مع الصين، والتى أسفرت عن تباطؤ التجارة العالمية وزيادة التكاليف على المستهلكين الأمريكيين؛ وهو ما يثير التساؤلات حول تأثير هذه السياسات فى الاقتصاد الأمريكى والعالمى فى المرحلة المقبلة.
تحمل التعريفات الجمركية التى فرضها ترامب ضد كندا والمكسيك العديد من التداعيات الداخلية المحتملة. ومن الراجح أن تؤدى التعريفات الجمركية المقترحة من قبل إدارة ترامب إلى زيادة تكلفة استيراد المواد الخام والسلع الوسيطة؛ مما يرفع تكاليف الإنتاج بالنسبة للشركات الأمريكية.
من ناحية أخرى، سينجم عن فرض رسوم جمركية إضافية على السلع المستوردة من المكسيك وكندا زيادة تكلفة هذه السلع. فالشركات التى تستورد هذه المنتجات ستكون مضطرة إلى تمرير تلك الزيادات فى التكاليف إلى المستهلكين. وقدَّر معهد «بيترسون» أن التعريفات الجمركية المقترحة من قبل ترامب قد تكلف الأسرة الأمريكية المتوسطة نحو 2600 دولار سنويا؛ مما يُثقل كاهل الأسر ذات الدخل المحدود بشكل خاص، وهذا يشكل تحديا كبيرا لإدارة السياسة النقدية، فى ظل الدورة الجديدة المحتملة للتضخم.
وقد تؤدى السياسات الجمركية إلى ردود فعل سلبية من قبل الشركاء التجاريين، تشمل فرض تعريفات انتقامية على المنتجات الأمريكية. مثل هذه الإجراءات ستؤدى إلى تقليل مبيعات المصدرين الأمريكيين؛ مما يُفاقم الأثر السلبى على الاقتصاد، كما حدث فى 2018 عندما تصاعدت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين. فبعد فرض تعريفات جمركية على الواردات الصينية، ردت الصين بشكل فورى على هذه السياسات بفرض تعريفات انتقامية على مجموعة من المنتجات الأمريكية تصل إلى 25%.
وتضررت مبيعات المنتجات الأمريكية إلى السوق الصينية بسبب الحمائية التجارية المتبادلة بين البلدين، حيث شهدت الصادرات الأمريكية من فول الصويا للسوق الصينية انخفاضا ملحوظا، والتى تُعد من أكبر أسواقها؛ مما أضر بالمزارعين الأمريكيين بشكل خاص. كما تعرضت شركات أمريكية أخرى للخسائر نتيجة انخفاض مبيعات منتجاتها فى السوق الصينية؛ بسبب الزيادة فى الأسعار الناتجة عن الرسوم الجمركية.
رغم الآثار السلبية المذكورة آنفا، يمكن أن تشجع التعريفات بعض القطاعات الاقتصادية على استعادة نشاطها، كما حدث فى قطاع الصلب الذى أضاف بضعة آلاف من الوظائف الجديدة بعد تعريفات 2018. ومع ذلك، فإن التأثير الإجمالى قد يكون سلبيا بسبب فقدان وظائف فى قطاعات أخرى تعتمد على التجارة؛ وذلك وفقا لدراسة أجريت فى يناير2021 بتكليف من مجلس الأعمال الأمريكى الصينى (USCBC).
• • •
تحمل التعريفات الجمركية التى فرضهاترامب على كندا والمكسيك (ومن المحتمل الصين قريبا) العديد من التداعيات الدولية المحتملة، ومنها اضطراب سلاسل توريد العالمية وتباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، وغيرهما. وفى خضم الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، قد تضطر الشركات الأمريكية لإعادة النظر فى سلاسل التوريد الخاصة بها. فخلال الحرب التجارية السابقة على سبيل المثال، اضطرت الشركات الأمريكية إلى البحث عن مواقع جديدة للإنتاج خارج السوق الأمريكية.
وقد نقلت العديد من الشركات الأمريكية عملياتها الإنتاجية من الصين إلى دول أخرى مثل فيتنام والهند فى السنوات الأخيرة. وأظهرت دراسة من «مجموعة بوسطن للاستشارات» فى سبتمبر 2023 أن نحو 30% من الشركات الأمريكية التى اعتمدت سابقا على الصين قامت بنقل جزء من عملياتها إلى دول جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية؛ مما أدى إلى ارتفاع التكاليف اللوجستية بنسبة تصل إلى 25% خلال السنوات الخمس الماضية؛ هذه التغييرات قد تؤدى إلى تقليل الكفاءة وزيادة تكاليف الإنتاج عالميا.
بالمثل، قد يدفع عدم الاستقرار الناتج عن التعريفات الجمركية الشركات إلى تقليل الجاذبية الاستثمارية للسوق الأمريكية بالنسبة للشركات الصينية. إجمالاً، تلك التغيرات تشير إلى إعادة تشكيل ديناميكيات التجارة والاستثمار على المستوى العالمي، حيث تصبح الشركات أكثر حذراً تجاه الاستثمار فى بيئات تجارية غير مستقرة.
وبينما من المحتمل أن تتحول الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين إلى صراع جيوسياسى أوسع نطاقا، سيؤدى ذلك إلى انقسام النظام التجارى والاقتصادى العالمى وتشرذمه إلى تكتلات متنافسة. هذا التقسيم قد ينتج عنه إضعاف التعاون الاقتصادى الدولى وزيادة التوترات الجيوسياسية. فى هذه الأثناء، ستؤدى القيود التجارية الجديدة إلى تقليص حركة التجارة الدولية وارتفاع التضخم العالمى وتقويض نمو الاقتصاد العالمى بمعدل 0.4 نقطة مئوية ــ إن لم يزد عن هذا الحد ــ فى عام 2025، وفق تقديرات «سيتى غروب».
ختاما، يمكن القول إنه رغم دور سياسات ترامب الجمركية فى تعزيز الاقتصاد المحلى ومعالجة العجز التجارى؛ فإنها تحمل مخاطر أخرى منها زيادة الضغوط التضخمية واضطراب النظام التجارى العالمى، وكذلك تصاعد التوترات بين القوى الاقتصادية العظمى؛ وبهذا يصبح التحدى الرئيسى أمام إدارة ترامب هو كيفية تحقيق التوازن بين حماية المصالح الوطنية وضمان استقرار الاقتصاد العالمى.
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
النص الأصلي
https://tinyurl.com/2s382s9p