أظهرت دراسات كل مشاريع التكامل الإقليمية، من مثل مشروع التكامل العربى التنموى الشامل، بأن نجاح قيامها وتحقق أهدافها سيتعثران إذا لم يصاحبها بناء الهياكل الأساسية للبنية التحتيّة، وعلى الأخص بنى النقل والاتصالات.
ويستطيع من يود الاطلاع على تجربة تاريخية فريدة قامت فى منطقتنا أن يقرأ عن تجربة تشييد الخط الحديدى الحجازى فيما بين مدينتى دمشق والمدينة المنوّرة، الذى بناه الأتراك فى بداية القرن العشرين، ليتعرف على الأدوار الدينية والاقتصادية والسياسية والأمنية التى تحققت بعد قيام ذلك المشروع.
كما أن الجامعة العربية، منذ إنشائها، قد قررت مرارًا وتكرارًا على أهمية مواكبة هذه البنية التحتية لكل أنواع الاتفاقيات الاقتصادية فيما بين أقطار الوطن العربى، بدءًا من اتفاقية مجلس الوحدة الاقتصادية عام 1980، مرورًا باتفاقية استراتيجية النقل والمواصلات العربية التى أقرها وزراء النقل العرب عام 1989.
لعلّ أحد أسباب تآمر الغرب الاستعمارى والصهيونية العالمية فى إقامة الكيان الصهيونى فى فلسطين، وبالتالى فصل المشرق العربى عن مغربه، هو منع وإفشال مثل هذه المشاريع التكاملية العربية فى حقلى النقل والمواصلات.
ولما كانت الجامعة العربية هى الجهة الوحيدة المخولة قانونيًا مبادرة ومتابعة موضوع التكامل الإقليمى العربى فى كل الاتفاقيات الاقتصادية التى أشرنا إلى بعضها فإنها، بالنسبة لهذا النشاط الحيوى المتعلق بالنقل والمواصلات، تستطيع أن تطرحه على مراحل.
يمكن أن تكون بداية المرحلة الأولى تكوين شركة عربية مشتركة يعهد إليها مسئولية إنشاء شبكة موحدة للنقل والاتصلات بحيث تتكامل فيها مسئوليات وسائل النقل المختلفة من برية وبحرية، وبعد حين حتى الوسيلة الجوية. وبالطبع يكون الهدف المفصلى لهذا المشروع تحسين وتسهيل التدفقات السلعية وانتقال الأفراد بيسر عبر الوطن العربى كله. وأعتقد أن الربحية وإمكانية الانتقال لتصبح عالمية ستكون مغرية بالنسبة لأغلب الأقطار العربية، بما فيها مساهمات القطاع الخاص فى التمويل والاستعمال بدلاً من اللجوء المكلف للشركات غير العربية.
إن قيام الجامعة العربية بالدعوة الجادة لقيام شركات قطاعية كبرى، كالتى اقترحنا قيامها فى حقل التصنيع الحربى للتقليل من الاعتماد على الخارج وابتزازاته، وكالتى نقترحها اليوم فى حقل النقل والمواصلات لدخول العرب فى ساحة النشاط العالمى للنقل والمواصلات، سيساهم مساهمة هائلة فى تنفيذ أحد مكونات المشروع النهضوى العربى: مكوّن التنمية العربية المستدامة، سواء تكاملية أو اندماجية.
وإذ نتقدم بتلك التصورات فإننا لا نقفز على بديهية أن السير فى طريق التكامل يحتاج أن يسير متوازيًا وجنبًا إلى جنب مع السير فى طريق التنمية التى لا تقف عند الاقتصاد وإنما تتعداه إلى حقول السياسة والاجتماع والثقافة والقيم الإنسانية الكبرى. لكن ضعف إرادة الفعل فى الجسم العربى، الذى ازداد مؤخرًا إلى حدود الخطر، يحّتم قبول القليل، فلعلّه يقود إلى الأحسن ثم الأصوب، وعلى الأخص إبعاد موضوع الشرق الأوسط التكاملى الذى يراد لدور العرب فيه أن يكون هامشيًا وتابعًا وخاضعًا.
وفى قلب تلك التصورات ضرورة خروج التكامل العربى من الصّيغ التعميمية إلى تخصيصية تحمل قدرًا أكبر من الوضوح والتركيز ومكامن الجدوى.
وفى قلبها يكمن أيضًا الأمل المعقول بأن الانتقال إلى عوامل التكامل، فى الاقتصاد والاجتماع والمعرفة والتكنولوجيا، سيقلّل من الخصومات السياسية والطائفية والقبلية العبثية التى يشعلها الخارج وخدمه فى الداخل بأشكال لا تحصى وتحت مسميات كاذبة لا تنتهى، حتى تبقى هذه الأمة ممزّقة وضعيفة.
لعل الوعى الجديد بأهمية تنشيط مؤسسات المجتمعات المدنية العربية ليكون لها وزنها ولتلعب أدوارها سيسّهل كثيرًا هدف التوجه نحو خطوة التكامل القطاعى الذى أبرزنا بعضًا من أنواعه السابقة الناجحة ومن أنواعه المأمولة اللاحقة.
مفكر عربى من البحرين