جامعات الجيل الثالث والرابع.. ما قبلها وما بعدها - نبيل الهادي - بوابة الشروق
الأحد 19 يناير 2025 9:48 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

جامعات الجيل الثالث والرابع.. ما قبلها وما بعدها

نشر فى : الأحد 19 يناير 2025 - 6:45 م | آخر تحديث : الأحد 19 يناير 2025 - 6:45 م

لا أعرف لماذا يصر كبار المسئولين عن الجامعات والتعليم العالى على الادعاء بأن جامعاتنا فى طريقها للتحول مرة للجيل الثالث (كان هذا منذ عدة سنوات) والآن للجيل الرابع. للأمانة لا أعرف ما هى المواصفات التى تتصف بها جامعة الجيل الثالث ولا حتى الرابع. ولكن إذا كان هذا إنجاز جامعاتنا التى تدخل قلة منها فى تصنيف أفضل خمسمائة جامعة فى العالم، فيا ترى إلى أى جيل تنتمى جامعات مثل كمبريدج، و«إم تى آى» ودلفت، وبيركلى وغيرها من الجامعات العشرة الأفضل؟ هل هم فى الجيل التاسع والتسعين مثلا؟

استغربت كثيرا حينما سمعت هذا الادعاء من رأس أكبر جامعة مصرية لأننى أعتقد أنه لم يفهم جيدا مدى عظمة تاريخ جامعته ونبل أصلها. فهى جامعة نشأت تلبية لتطلع الشعب للمعرفة وقامت على تبرعات أبناء الشعب واستمرت ما يقرب من عقدين من الزمن حتى تتحول تحت ضغوط مالية لجامعة حكومية. هى جامعة لها من التقاليد العلمية واحترام الأساتذة ما ينبغى التعلم منه والبناء عليه. ولكنها بالتأكيد لديها أيضا العديد من المشكلات وتواجهها العديد من التحديات.

•  •  •

الجامعة لها ثلاثة أركان رئيسية أولها الأستاذ المنتج للمعرفة والمفكر بصورة مستقلة وناقدة، وثانيها الطالب/الطالبة الساعى/الساعية للتعلم ومعرفة ما يمكنه من التعامل مع تحديات الحياة، أما ثالثها فهى المكتبة التى تحوى من أصناف العلوم والدراسات قديمها وحديثها لتمكن الأستاذ والطالب/الطالبة من الاطلاع على كل ما يجد، وأيضا عدم نسيان جذور تلك المعارف والتى هى ضرورية للتعرف على السياق العام الذى يمكن من استخلاص النتائج من تلك الكتب.

لدى تجارب فى جامعات أخرى داخل مصر بعضها جامعات أهلية والآخر جامعات خاصة. خبراتى فى الجامعات الخاصة ليست سعيدة فى معظمها لأنها تهتم للأسف بتخريج الطلاب وليس التأكد من أنهم يستحقون الدرجات العلمية التى يحصلون عليها (بناء على خبرتى فى جامعتين خاصتين كل منها لمدة فصلين دراسيين). هم أيضا وكما أخبرت مالك إحداها فى اجتماع عام يعاملون الأساتذة كموظفين بمعنى أنهم يهتمون أكثر بحضورهم وانصرافهم ولم أرهم يعطون نفس الأهمية لجودة المحتوى الذى يقومون بتدريسه.

فى الجامعات الأهلية، ولدى خبرة فى اثنتين منها، يقومن بتدليل الطلاب إلى حد ما وهناك بالطبع فارق بين معاملة الطلبة باحترام وتدليلهم. كما أن واحدة منهما كانت تقيد ما أحاول القيام به (يقوم عملى فى الأساس على التجريب والاكتشاف وهو ما يحمل بعض المخاطرة المحسوبة طبعا) وهو ما انتهى بى إلى ترك التدريس بهما بالرغم من المزايا المادية النسبية مقارنة بجامعتى الأصلية.

فى جامعتى وبالرغم من العديد من التحديات والإشكاليات إلا أننى استطعت خاصة فى العشر سنوات الأخيرة بالقيام بالعديد من التجارب التى نجح بعضها واستمرّ بينما لم ينجح البعض وتوقف. فى الحقيقة دائما ما أحكى لزملائى الأعزاء فى مصر وخارجها عن تلك الفرص التى أتاحها المناخ الحالى فى جامعة القاهرة والتى لم أجدها فى غيرها وكيف أدى ذلك إلى تطور معارفى وقدرتى على تعليم الطالبات والطلاب بصورة أفضل خاصة فى إطار الدراسات العليا. لا أنكر أننى كنت محظوظا فى بعض التجارب التى ما زالت مستمرة حتى الآن حينما دافع عنى زميل أجنبى حينما لم أكن حاضرا لأنه أدرك أننى أجرّب والتجارب تكون أحيانا فوضوية فى بدايتها. وبعد سنوات قليلة وحينما حاز فريق من طلبتى على جائزة كبرى فى مسابقة دولية نظمتها إحدى أهم الجامعات فى العالم لم أعد بحاجة كبيرة للدفاع عما أقوم به وخاصة إشراكى أساتذة من علوم أخرى كالمياه وغيرها فى تدريس مقررا داخل قسم العمارة.

•  •  •

لأن ظروف جامعتى تكاد تكون مماثلة للظروف العامة وللتغلب على نقص التمويل الذى يتطلبه البحث الذى لا يحتمل التأجيل أو التوقف قمت بتأسيس معمل افتراضى يكون مكانا للتجريب والدراسة والعاملين وطالبات وطلبة الدراسات العليا، وفى مناسبة واحدة عندما أتيح لنا تمويل متواضع انضم إلينا أساتذة من تخصصات أخرى. كما استفدنا من تحويل مشروع تحت التنفيذ لمشروع تجريبى دراسى يشترك فيه معنا أحد المراكز الإقليمية لأكاديمية البحث العلمى.

لفترة طويلة تصورت أن تجنب السياسة ممكن من خلال التركيز على الأدلة والبيانات العلمية وكان تركيزى على دراسة كيف تواجه المجتمعات المحلية تحديات التغير المناخى مثاليا لتحقيق ذلك. التغير المناخى هو مجال مؤسس على علوم مركبة ومتداخلة ويعتمد على البيانات والأدلة على مختلف المستويات سواء العالمية أو الإقليمية أو المحلية. وتأثيرات التغير المناخى على جوانب الحياة المختلفة مثبتة من خلال آلاف الدراسات. وللأهمية البالغة له على حياة البشر ومستقبلهم تعقد مؤتمرات عديدة كل عام لتناقش ما يجب فعله وتضع الخطط الملزمة لذلك.

كان هذا من وجهة نظرى مثاليا لتناول التنمية المستدامة فى السياق المصرى. ولكنه كان تحديا كبيرا أيضا. وفكرت دائما أن هذا يتيح إطارا جيدا للتعلم ومحاولة تطوير مدخل محلى يتناسب مع المحددات المحلية. وكان هذا أيضا مثيرا بالنسبة لى لأننى سأضطر لاكتشاف أماكن لم أكن أعرفها بصورة جيدة من قبل، كما أننى سأضطر للبحث والاطلاع على أحدث الأوراق العلمية والتقارير الدولية وأفهمها بصورة أفضل كنا ندعو أساتذة أفاضل يمكنهم شرح تلك التحديات بصورة أفضل ويبسطون لنا العلوم المعقدة وراء ظاهرة التغير المناخى.

منذ سنوات قليلة أدركت أنه حتى فى الدول التى بها انتخابات حرة وممارسات ديموقراطية مستقرة فإن قضايا مثل مواجهة التغير المناخى أظهرت مدى قدرة الشركات متعددة الجنسيات. ظهر ذلك واضحا فى الحراك الشعبى العالمى الذى تقوده الرائعة جريتا ثونبرج كما ظهر أيضا فى الحراك العالمى والمحلى الذى تقوده منظمة مناهضة الانقراض والتى انبثق عنها علماء ضد الانقراض. وتقوم تلك المنظمة بأفعال تبدو للبعض متطرفة وإن كانوا هم يرونها (وأنا أتفق معهم) ضرورية للفت انتباه المجتمع والضغط على الساسة للقيام بتحركات وأفعال حقيقية لمواجهة التغير المناخى. أيضا بدأت العديد من المنظمات غير الحكومية وأحيانا البلديات برفع قضايا أمام المحاكم يختصمون فيها شركات النفط أحيانا والحكومة أحيانا أخرى وإلزامهم بالقيام بواجباتهم المحدد بموجب الدراسات والأبحاث العلمية للتقليل من حجم التغير المناخى، حتى لا ندخل فى مراحل لا يكون لأفعالنا تأثير فيها وتنتهى فيه حضارتنا ويهلك العديد من سكان كوكبنا.

تدفعنى تلك المعرفة إلى التمسك أكثر بالقاعدة العلمية والبحثية التى نبنى عليها عملنا ونربطها بتطوير تدخلات عملية خاصة فى المناطق الأكثر عرضة للتغيرات المناخية عسى أن تتطور تلك الأفعال لتبلغ ما يمكننا من المساهمة الفعالة ليس فقط فى الحد من التأثيرات على مجتمعاتنا المحلية، لكن أيضا لإنقاذ كوكبنا الذى نرتبط جميعا به ونعتمد على صحته.

•  •  •

قرأت أن جامعات الجيل الرابع ترتكز على الابتكار والبحث العلمى التطبيقى وريادة الأعمال والتفكير النقدى، وهى تعتمد على الابتكار والاستدامة والتفاعل مع المجتمع. لم أفهم فى الحقيقة كيف يختلف ذلك عن الأهداف الرئيسية للتعلم الجاد فى مستوى الجامعة.

 

أرى استخدام تلك المصطلحات ليس فقط نوعا من صرف الانتباه عن مشاكل وتحديات الجامعة الحقيقية وعن حاجتها للاستقلال ودعم الحرية الأكاديمية، ولكنه يصرف النظر عن التحديات الحقيقية التى نواجهها والتى تتطلب منا العمل الجاد ونقد الذات حتى نستطيع تقديم المساهمة المطلوبة حاليا ومستقبلا.

 

 

التعليقات