لا أحد يمكنه تجاهل التحولات الزلزالية الجارية فى إقليم الشام، أو التقليل من آثارها وارتداداتها، أو حتى استبعاد مفاعيل نظرية «الدومينو» فى الإقليم.
وفى الوقت نفسه، يتوجب التأكيد على أنه لا أحد أيضا، يستطيع أن.. يحبس الحاضر، أو يجمد التاريخ أمام لحظة معينة من الزمان، مهما كانت قوة تلك اللحظة وجبروتها .
فى أحداث إقليم الشام، خلطت الأوراق بشكل معقد، وغابت حقائق كثيرة، وحضرت أسئلة شائكة، وأخرى بلا أجوبة مقنعة، ظلمات بعضها فوق بعض، تذكرنا ببعض دروس التاريخ وعبره، وبأحداث سبقت ما سمى بالربيع العربى، وبخاصة درس إبادة مليون عراقى بأكذوبة، وكيف تناسلت «القاعدة» الجهادية، «دواعش» برايات ومسميات عديدة، ومليشيات للقتل، وتفتيت المجتمعات، وهدم أعمدة أوطان، وخراب بلدان، وفتنة طائفية، وتنفيذ أجندات «الفوضى الخنَّاقة»، وهدر طاقات وموارد، وقهر للعباد.
كانت المحصلة: اهتزار يقين الشعوب العربية فى نفسها، وإرهاق الوجود العربى كله، واستفحال عوامل الإحباط والعجز، وضياع الرؤية المشتركة للمخاطر والتهديدات، وضعف الضوابط والروادع التى كانت تكفل القوة الذاتية العربية.
أمام سوريا اليوم، مسار طويل وشاق، فالحدث زلزالى بكل المقاييس، ويفتح الباب أمام الكثير من القوى والدول فى الإقليم وخارجه للانخراط بشكل أو بآخر فى المشهد السورى الجديد. الملىء بالفراغات والفرص والتحديات، وسيحضرون لمصالحهم.
الفرح بسقوط النظام والذى غمر البعض، وبخاصة خصوم الأسد، وما رافقه من تبجيل وتجميل لوجه وخطاب سادة اللحظة فى دمشق، طغى على أسئلة مستقبل سوريا، بما فيها من أسئلة تتعلق بنزع سلاحها إثر تدمير آلة القتل الإسرائيلية لأكثر من ثمانين بالمائة من قدرات سوريا الدفاعية والعسكرية والعلمية. وتوسيع احتلالها لأراض جديدة.
ليس سهلا على أغلبية الدول العربية، الاقتناع بأن هذه التحولات لا تحمل مخاطر على مصير سوريا المستقبل، أو أنها لا تهيئ لعمليات قيصرية مؤلمة لتغيير خرائط جيوسياسية، أو أن خطاب وسياسات القوى الإسلاموية المنظمة والمسلحة، قد تخلصت من مثالبها وطموحاتها السلطوية، ودخلت حقبة «غير أفغانية» تتبنّى ــ قناعة ــ بناء الدولة على أسس المواطنة المتكافئة والمتساوية، واستبدلت عقل الثورة، بعقل الدولة الوطنية المدنية العادلة والجامعة.
كما أنه ليس سهلاً أيضا على الجوار العربى الجغرافى لسوريا، فى الأردن ولبنان والعراق وأهل فلسطين المحتلة، تجاهل مخاطر عودة التناحر والاقتتال الطائفى والعرقى فى سوريا .إن بوابات القلق مفتوحة، ومثلما شكل بقاء الطغاة مأساة للبلاد والعباد، فإن زوال الطغاة يجلب فوضى ومآسى، ويغرى طوائف وأعراق بأحلام الفدرلة والمحاصصة وقصة «دستور بريمر» الطوائفى والمحاصصاتى سيئ الذكر ليس ببعيد.. وتجربة ليبيا وتحولها إلى دولة هشة ومقسمة ومتحاربة، لا تخفى على أحد.
فى المشهد الراهن، تبدو تركيا، كرأس حربة للتغيير الذى حدث فى سوريا، وصاحبة الكلمة العليا فى الملف السورى، وأولوياتها فى إقامة منطقة عازلة فى سوريا، وتصفية طموحات الأكراد السوريين، بإقامة دولة لهم، فى حين تترسخ أولوية أميركا وأغلبية الغرب الأوروبي، فى الدفع باتجاه ألا يشكل النظام السورى الجديد، تهديدا لإسرائيل، فضلاً عن عدم استمرار إشعال «الفوضى الخلاقة». بحجة دمقرطة الشرق الأوسط، وإعادة رسم خرائطه، ورفع شعارات لزجة ذات صلة بحماية الأقليات وحقوقها، وتمكين المرأة.
وفى المشهد أيضا، تقف إسرائيل أمام فرصة غير مسبوقة لتغيير الميزان العسكرى الاستراتيجى فى الشرق الأوسط، وتسعى لخلق مجال نفوذ جوهرى على مناطق سورية (دروز-أكراد)، والمرابطة على مسار حدود مع سوريا مختلف عن ذلك المحدد فى اتفاقية فض الاشتباك 1974.
وفى المشهد أيضا، روسيا وإيران، وهما يغادران سوريا، بعد أن تأكدا أن أكلاف الدفاع عن نظام الأسد لم تعد مجدية سياسيا وعسكريا وماليا، وبخاصة مع حصيلة وتداعيات حربى غزة ولبنان، وخيبة أمل كثيرين من لعبة «الصبر الاستراتيجى» الإيرانية. فضلا عن استفحال خطة الغرب، بإطالة مدى استنزاف روسيا فى الحرب الأوكرانية.
سوريا اليوم.. أمام لحظات مصيرية، ويرقب العالم الشعب السورى وهو فى غالبيته شعب عاش طويلا فى حضن حضارة وثقافة متسامحة، تخدم التنوع والتعدد، نموذجه فارس الخورى، المسيحى البروتستانتى وأحد الآباء المؤسسين للدولة السورية، وفهمه لجوهر الإسلام قمة فى الاعتدال، واحتضنت على ترابه رمزية «قوة العقل» التى يجسدها مرقد العالم والفيلسوف (أبى نصر الفارابى)، كما احتضن أيضا رمزية "قوة الروح" التى يجسدها مرقد ابن اشبيليه الأندلسية (محيى الدين بن عربى). وكلا المرقدين على مقربة من أبواب دمشق التاريخى.
هل ستنسى حلب ومنبج ودمشق وإدلب. وهى تنسج دستورها ونظامها الجديد، تراثها الثقافى الإنسانى؟ هل ستنسى «رقص السماح»، من ألف عام وأكثر من التاريخ، رقصة الروح والجسد الجماعية، وما فيها من هوية وأدب وحشمة ورزانة وجمال وذوق رفیع؟؟
الشعب العربى السورى.. بحاجة إلى إنهاء أزمنة الشقاء.. وتغليب لغة الحوار على لغة الانتقام.