لي أشهُر طويلة أحاول تركيبَ حبالٍ في شُرفة المنزل، لكنها تخذلني تباعًا. تبلى وتتقطَّع بعد فترةٍ قصيرة، أو تترَهَّل وتتدلى كما لو كانت مريضةً، أو تطبع الملابسَ بالصدأ إن كانت مَعدنية. جرَّبت الكتانَ والبلاستيك وسائرَ الأنواع، ولم أفلح سوى في اتخاذِ قرارٍ بالكفّ عن المُحاولة، وشراءِ مَنشَر مُتنقّل.
• • •
في بعضِ المناطق تُستَخدَم الحبالُ المَشدودةُ على الأسطح كمناشِر، وفي أخرى تمتدُّ بطول الشُّرفات الخلفية وأحيانًا الأمامية، وهناك أيضًا تلك المَناشِر المُتحركة، المَصنوعةً من البلاستيك أو المعدن والتي يمكن وضعها في أي مكان تتخلله الشمسُ ويدخله الهواء، وقد ظهر منها مؤخرًا ما يمكن تثبيته في سور الشرفة مطويًا ثم فرده عند الاستعمال؛ توفيرًا للمساحة وتجميلًا للمنظَر.
• • •
المَنشَر اسم مكان من الفعل نَشَر؛ أي وزَّع وفرَّق، وهو مَوضِع تجفيف الملابس والمنسوجات المُبتلة. الفاعلُ ناشرٌ والمفعول به مَنشور، والمصدر نشْر بتسكين حرف الشين، أما النشرَة فاسم المرة الواحدة من الفعل، وإذا ذُكِرَ المِنشار فأداة يدويَّة أو كهربية تُستَخدم في القَّطع، وإن قيل عن شَخصٍ إنه مثل المِنشار؛ فللعبارة بقية تفسّر التوصِيف: "طالع واكل نازل واكل"؛ والقصد أنه يحصُد المكاسبَ كما تحصد أسنانُ المِنشار فتات الخَشب.
• • •
مثلت نشراتُ الأخبار التلفزيونية مصدرًا للمعلومة الطازجة شبه الأكيدة في أزمنة ماضية، ثم تنحَّت الشاشةُ الصغيرة جانبًا، وصارت وسائلُ التواصُل الاجتماعية في مُقدمة المصادر التي يستقي منها الناسُ معرفتَهم؛ يسعى قليلهم للبحث والتوثيق، بينما تكتفي الغالبية العظمى بالاستسلام لما تتلقَّى، ولا تنفكّ تتعامل معه كحقيقةٍ دامغة، لا تقبل التشكيكَ أو المُراجعة.
• • •
في أيام وَلت وانقضَت؛ كانت المَنشوراتُ الورقيةُ توزَّع داخل الجامعة خِفيَة؛ يُعاقَب حاملوها إن احتوت على ما يُغضِب السُّلطات المسئولة، وقد يتعرَّضون للفَصْل من كلياتهم والاستبعاد مُددًا تطول أو تقصر؛ حسبما تتضمَّن السُّطور. في وقتنا هذا، صارت المَنشوراتُ حاضرةً على الصفحاتِ الإلكترونية بوفرة، تصل ملايين الأشخاصِ بضغطة زِرّ، ولا تحتاج أغلبَ الأحيان للتنكُّر والتواري أو اتخاذ الحَيطة والحذر. رغم السُّهولة وسُّرعة الوصول واختراق الحدود الجغرافية؛ يبقى للورقة التي تتسلمها اليدُّ أو تُسلمها لأخرى وقع مُختلف، فالحضور الماديّ يدعم الإحساسَ المُتبادَل بالأهمية والخُطورة، ويُعزّزهما ذاك الاستعداد القائمُ للمُغامَرة وتلقّي العقوبة.
• • •
ثمَّة من ينشرون حولهم الإحباط واليأس والانهزام، ومن يَبرعون في نَشرِ القلقِ وتوطينِ الخَوف ودفع الناس لإيثار السَّلامة على ما سواها. قلةٌ هم من يَنشُرون التفاؤلَ ويَخلقون مشاعرَ إيجابية في محيطهم، ونُدرة مَن يعملون في دأب وإصرار على نشر المَعرفة وتنبيه الوَعي وتفكيك منابع البلادة؛ فمتى وأنَّى وُجِدوا جابهوا حربًا شعواءً مُدجَّجة بمختلف الأسلحة؛ إذ جرى العرفُ على استبقاء الجماهير في حال من التَّعمية والجَّهالة؛ كي يَسهُلَ التحكُّم فيها.
• • •
إذا أوغلَ المرءُ في الحديث عن أسرارٍ مُحمَّلة بالقُّبح والرداءة والفساد؛ لقال الناسُ إنه "ينشر الغسيلَ الوسخ"، والقصد أنه يُذيع ما استوجَبت مساوئُه الكتمانَ والحَجْبَ عن الأعيُن؛ لا الجَّهر والإفشاء. الغَسيلُ المُتسخ مَوضِع ازدراء، وإظهاره للآخرين عيبٌ لا يُغتَفر، والأمر ما ظلَّ بين أصحابه أكرم لهم، وأقلّ إيذاءً لمَن يعرفهم.
• • •
تمثل النشراتُ الموجودة داخل علب الأدوية والقادمة من الخارج؛ تحديًا حقيقيًا لمن يملكون نظرًا ضعيفًا؛ بل وقويًا أيضًا؛ إذ تتمتع أحرفُها بحجمٍ شديد الصغر، لا يكاد يُرى ولو ارتدى المرءُ نظارة أو استعان بعدَسة مُكبّرة. يُفسر الأمرَ كمُّ المَعلومات الهائل الذي تُضطَر الشركات المُنتِجة لتضمينه في النشرة؛ فعَرَضٌ جانبيٌّ واحد تُغفِله؛ قد يُلزمها بتعويضاتٍ ضَخمة لمريضٍ يشكو تضليله عن قَصد، أو إخفاء معلومةٍ تهمه.
• • •
تحوَّلت بعض القنوات التلفزيونية إلى مصدر لنشر الخرافات التي تخاطب رغبات مُشاهديها وغرائزهم، وتعدهم بحلول جهنمية لأزماتهم المُتفاقمة. تابعت إعلانات عدَّة يجري من خلالها الترويج لوصَفات علاجية وعمليات جراحية، وطرق تجلِبُ التائه وتيسر الزواج وغيرها من أفعال يعوزها المنطق، لا تمُت في مجملها للعلم بصِلة ولا تتوخَّى الصِّدق؛ إنما تصنع من أوجاع الناسِ أرضًا خصبة للتكسُّب وحصد الأموال، دون أن تجد المُحاسبة الواجبة.
• • •
تعدَّدت دور النشر في الآونة الأخيرة وتنوعت المجالات التي تطرقها؛ لكنها على غزارتها لم تتمتع يومًا بالحريَّة الواجبة التي تتيح لها إصدارَ ما شاءت من نصوصٍ دون قيود.
• • •
الشائعةُ إفرازٌ طبيعيٌّ لبيئتها؛ تنتشر وتتكاثر ما وَهن المجتمع واضمَحلت مُقوماتُه، وما تعرَّض لهزَّات تُضَعضِع بنيانَه وتورِثه الهشاشة. لا تتطلب مواجهةُ الشائعات سَنّ القوانين وتغليظَ العقوباتِ؛ بقدر ما تحتاج إلى الكفّ عن التلاعب والمُكاشفة بالحقائق واستيعاب الانتقادات وإزالة الشكوك، ولسانُ الحال يقول إن رؤيةَ الدُّخان تشي بوجود النار وإن لم يظهر مَصدرها.