على مَرّ الأعوام، شدَّ ملايينُ الأشخاصِ رحالهم إلى مِصر؛ مدفوعين بسَببٍ أو آخر. بعضُ الناس فرّوا من حربٍ ضَروس أتت على الأخضر واليابس، وبعضٌ آخر عانى اضطهادًا فى مَوطنه، وبعضٌ ثالث لم يعد له عَيشٌ فى المَوضِع الذى تركه؛ فجاء مُتوسمًا صدرًا أرحب ولقمةً أطيَب. مِصر مَلجأ لعديد الجنسيَّات؛ وطنٌ ثانٍ لأشقاء وقِبلة أمان وبراح لجيران، وهى لا تضيق أبدًا بمَن وَفدَ عليها وإن ضَاقت بها الأيام.
• • •
المَلجأ اسمُ مكان من الفعل لجَأ، الفاعل لاجئٌ والمفعول به ملجوءٌ إليه، واللجُوء مصدر، وإذا قيل لجأ فلانٌ لعِلان كى ينقذَه من وَرطة؛ فالمعنى أنه لاذَ به واستجَار، والرَّجاءُ ألا يخذله وأن يُجيبَ حاجته.
* • •
فى بَعضِ المناطق القديمة؛ لم تزلْ حوائطٌ سَميكة تقفُ مكانها شاهدًا على أوقاتٍ عصيبة؛ كان الناسُ يُضطرُّون خلالها للجُوء إلى ساترٍ يَقيهم ضرباتِ الأعداء، والعادة أن تُشيَّد الملاجئ تحت الأرض؛ كى توفّرَ الحمايةَ للمَدنيين أثناءَ الحروب، يترك المُستهدَفون متاعَهم ويَفرُّون إليها، يتلاقون فى مَساحةٍ مَحكومةٍ تضمُّ الجَّميع، قد يتعارَفون ويتصادَقون ويَدخلون فى حوارات ممتدة إلى أن يَزولَ الخَطر، ويَتمكَّنوا من مُغادرةِ المكان، أو يُلهيهم الخوفُ ويَمنعهم الهلع عن التواصُل أحدهم مع الآخر. رأينا على الشَّاشات فرارَ سكان تل أبيب وما فى تخومها من مُستوطنات، وانطلاقهم نحو الملاجئ فور اندلاع صفَّارات الإنذار. رأينا أيضًا صلابةَ أهل غزَّة والمحيطون بها؛ يرفع السَّائرون فى شوارعها رؤوسَهم، ويستقبلون القَّصفَ والقنصَ والغارات؛ ولا ينحنون.
* • •
إذ تُذكَر ملاجئ الأيتام؛ تقفز إلى الذهن صُور ومشاهد من أعمال درامية متنوعة، تناول كثيرها جوانبَ مُظلمة فى حياة جافة عصيبة، وقدَّم قليلها صورةً لطيفة خالية من القسوة المتوقعة على غرار فيلم «العذراء والشعر الأبيض» الذى كتبه إحسان عبد القدوس، وعلى كلِّ حال فإن بعض قَّصص الواقع تتبدَّى أسوأ من الدراما بمراحل شاسعة؛ لا يستوعبها العقلُ السَّوى، بل يأنف حتى سَماعها.
* • •
اللجوءُ السياسى حقٌّ لكلّ شَخص طاله إيذاءٌ جَسيم؛ على خلفية مُعارضتِه لسُلطة قامعة. رغم هذا؛ فمِن المُعارضين مَن لا يُحبذ أن يتحوَّل إلى لاجئ، ويُفضل البقاءَ مكانه طالما استطاع الحفاظَ على هامشِ سِجال وتحدّى، والحقُّ أن الانسحابَ يغدو حتميًا بعضَ الأحيان؛ لكنه لا يمثل أبدًا الاختيارَ الأفضل.
* • •
ثمَّة مَلجأ مَبنىٌّ من حَجَر وخرسانة، مُعزَّز بما يَستبقى المَوجودين داخله سالمين، وآخر مبنىٌّ على فَيضٍ مِن الأحاسيسِ والعَواطف؛ وذاك بدوره حصنٌ حَصين. أعرفُ رجالًا أصحابَ شَكيمة وعَزم؛ يلجأون لأمهاتهم وإن شابت مِنهم الرؤوسُ وعركتَهم الحياة؛ لا يجدون الأمانَ والهدوءَ النفسى إلا فى حضورِهن الذى يَجُبُّ كلَّ حضور، وفى الحَدب الغامر الذى يبقى حكرًا عليهن، عصيًّا على مَن سِواهن.
* • •
ربما يلجأ الواحد إلى طريقٍ مُلتفَّة كى يُحققَ غرضَه، لا ينبع سُلوكه من سِمات شخصيته وحسب، إنما قد تفرضه الظروف؛ فمرات لا يَصل الخطُّ المستقيم بسالكه إلى الهدف، بينما تفعل الانحناءات والدورانات.
* • •
حفظنا قصيدةَ فؤاد حداد «ازرع كل الأرض مقاومة»، وفى أحد مقاطعها يقول الشاعر: كون البادئ.. كل فروع الحق بنادق.. غير الدم ما حدش صادق.. من أيام الوطن اللاجئ.. إلى يوم الوطن المَنصور.
* • •
يفضل المَرءُ فى الأوقات الحالكة أن يلجأ لقوة عُظمى؛ تتفوَّق على ترتيبات البشر ومكرهم. يثق المؤمنون بتدابير الرَّب، ويشعرون بكامل الطمأنينة فى اللجوءِ لواسع حيلته وفى مُساندته؛ ولو لم يتحقق لهم المراد. الاعتقاد فى وجود حِكمة من كلّ واقعة ومَغزى وراء كلّ حدث؛ يسبغ على الإنسان راحةً وسلامًا، بينما التشكُّك والتساؤل يجلبان القلقَ الدائم؛ والاختيار بين هذا وذاك رهنٌ بإرادة كلّ فرد، لا يوجد خطٌ يَفصلُ فى دِقة بين الخطأ والصواب.
* • •
يفشل قسمٌ مُعتبر من أصحابِ الأوزان الثقيلة -التى تتجاوز حدودَ المَقبول- فى اتباع حميَة غذائية مناسبة. يلجأون لعدد من العمليات الجراحية المُعقَّدة التى يُناط بها تحجيم الشهيَّة والإقلال من عدد الكيلوجرامات الزائدة. بعضُ الجراحات ناجح مُنجِز وبعضُها الآخر يتحوَّل إلى كابوس ويؤدى إلى آثار جانبية عنيفة. عرفت من صَغَّر حَجَم معدته، لكنه لم يلبث أن تجاوزَ الأمر، وتمكن من العودة بها إلى الحَجم الطبيعى؛ بعدما استمرَّ فى تناول كميات كبيرة من الطعام. أعرف أيضًا من فقد نصف وزنه وحافظ على هيئته الجديدة وتخلَّى عن عاداته المزعجة فى مطاردة ما لذَّ وطاب. يرجع الأمر لمَن يُعانى المُشكل؛ فإن تجلد وشحذ نواياه كان التوفيقُ حليفه، وإن اتبع شهوتَه أخفق وتقهقَر.