المَخبَز - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 12 أبريل 2025 9:05 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

المَخبَز

نشر فى : الجمعة 11 أبريل 2025 - 7:40 م | آخر تحديث : الجمعة 11 أبريل 2025 - 7:40 م

مع حلولِ الثلثِ الأخير من شَهر رمضان؛ تنافسَت المَخابزُ والأفرانُ الكبرى ومَحال الحلويات الشرقية والغربية جميعها؛ فى الإعلان عن لوازم العيد من كحك وغريبة وبسكويت. تبادل الناس المعلومات حول الأفضل مذاقًا والأنسب سعرًا، وانبرى السَّاخرون يؤكدون أن نوعًا جديدًا من الكَحكِ الأخضر على وَشك الظهور. لم تمُر أيامٌ قليلة حتى جاءَ من يزِفُّ البشرى: كحك بستاشيو.

* • •

البيستاشيو هو الفُستُق الذى فَقَدَ هُويَّته مع انتشاره على نطاقٍ واسع، وتحوُّله إلى صَيحة رائجة صاحبت أنواعَ الحلويات كافة؛ بدءًا من مُنتجاتِ الألبان المُعتادة، مرورًا بصوانى البسبوسَة والكنافة، ووصولًا للكرواسُّون والدانش، وأخيرًا مَجموعة المَخبوزات المُرتبِطة بعيد الفِطر. بات البيستاشيو علامةَ أناقةٍ وتباهى لا غِنى عنها، والمُدهش أننى كلَّما طلبت بدافعِ الفُضول أحد المُنتجات التى يُكللها ويرفع من شأنها؛ كلّما صحَّح لى البائع طلبى، نافيًا تُهمة الفُستُق عنه، مؤكدًا أنه بيستاشيو.

* • •

انتشرت على مَواقِع التواصُل الاجتماعيةِ توضيحاتٌ تؤكد أن العجينَ الأخضرَ يَحوى نسبةً لا بأس بها من حبوب البازلاء المَطحونة، المُضاف إليها رحيقُ أو «روح» الفستق التى يبيعها العطارون، وأغلب الظنّ أن الحديثَ صحيحٌ، فنظرة عابرة لأسعار المُكسَّرات المُستقلة بذاتها؛ تشير إلى استحالةِ تناسبها مع سِعر المَخبوزات التى تتضمَّنها. على كلِ حال؛ تحوَّلت المَخابزُ جميعها إلى احتفالياتٍ خضراءٍ زاهية؛ بغضّ النظر عن مُكوناتها.

* • •

المَخبز اسمُ مكان مُشتقٌ من الفِعل خَبزَ، الخابزُ فاعلٌ والمَفعول به مَخبوز؛ أما الخبَّاز بفتح الباء وتشديدها، فصيغة مبالغة تفيد كثرة مُمارسة الفعل وربما اتخاذه حرفةً أصيلة، وتُذكَر السِلسِلةُ الشهيرةُ التى تحملُ هذا العنوان، والتى تمتَّعت على مدارِ عقود بجودَة لافتة.

* • •

المخابزُ قسمان؛ بلدى؛ يصنع الرغيفَ المستدير الذى ألفناه، أبيضَ كان أو أسمر، وأفرنجى؛ يصنع الرغيف الفينو ومُشتقاته التى لا حصر لها. تعرَّض الرغيفُ على اختلافِ أنواعه إلى تقلباتٍ عجيبة فى الآونة الأخيرة، كان ملءَ العين؛ فصارت رؤيتُه بحاجةٍ إلى عدَسة مُكبِرة، وكان طيَّبَ المذاق؛ فبات مما يؤكل وفاءً للذكرى. حتى الرغيفَ المَدعوم، المُحصَّن ضد عوامِل الزَّمن والذى حظى بحماية أولى الأمر على مدار عقود طويلة؛ قد فَقَدَ مَيزاتِه وتحوَّل إلى مَصدر تنكيتٍ وتبكيتٍ وتندُّر.

* • •

ظهرت ألوانٌ من الخُبز؛ مَصنوعة من بذور الشيا والكتان وحبوبِ الشعير والشوفان وغيرها. انتشرت فى المتاجر الكبرى وحملت أثمانًا مُضاعفةً فى مقابل الخُبز المعتاد؛ المَصنوع من الدقيق الأبيض أو الردَّة. الخُبز الجديد مُفيد للصّحة، مُساعِد على الحميات الغذائيَّة المُختلفة، وهو أقلّ ضررًا لمرضى السُّكرى والقولون العصبى؛ لكنه فى غير مُتناوَل اليد.

* • •

يُصنَّف الرغيفُ إلى سياحى وعادى؛ الأول أفضل قوامًا وأعلى ثمنًا، والثانى تأكله الغالبية العظمى من الناس؛ وكأن المواطن مُستقر بتعريفه فى مقامٍ مُتواضع؛ يعلوه السائح درجة ودرجات. على كل حال جرى العرفُ بأن تذهب المُخصَّصاتُ المُتميزة لمن يستطيع إليها سبيلًا، وأن تعافَ من قَصُرت إمكانياتُه عن التطلُّع إليها.

* • •

يُحاول الواحد أن يخفى أمرًا يزعجه عن صَاحبٍ قريب؛ فيتصنَّع البراءةَ ويُسوف الحديثَ ويدور بين المواضيع؛ لكن الأذنَ المُصغيةَ لا تلبث أن تستمهِلَه، مُعلنة عدم تصديقه مُتساءِلة عن الحقيقة: دا أنا عاجنك وخابزك. التعبير مُوجَزٌ، مُنجِزٌ، يشى بعمق المَعرفة وتوطُّدها، ويؤكد القدرةَ على سَبر الغَوْر ببساطة ودون بذلِ الجَّهد الحثيث. عمليةُ العَجن هى الخطوةُ الأولى لإعداد المَخبوز، والقائمُ عليها يعلم جيدًا طبيعةَ المكونات التى قدَّر كميتها وخلطها؛ تمامًا مثلما يعلم طبيعةَ صاحبه ويفهم شخصيته ويدرك ما أبطنَ وما أخفى.

***

رائحة الخَبز شهيَّة مُغرية؛ يصعب أن يستنشقَها الواحد ثم يقاوم نداءَها ويمضى إلى حالِ سبيله. أعرفُ من لا يمكنه المُرور بمَخبزٍ إلا ودخله لشراء ما وقع أمامه؛ دون أن يكون فى حاجة إليه، وأعرف من لا يمكنها أن تغادر السُّوقَ التجاريةَ الكبيرةَ إلا حاملة رغيفًا فرنسيًا طويلًا؛ هو لديها أثمن من كلّ شىء. لا يتعلق الأمر بداءِ الشراهةِ المُطلقة؛ إنما بمواد كيميائية تعبثُ بمراكز مُحدَّدة فى الدماغ، وتتسبَّب فى صُورة من صور الإدمان؛ كلما تناول المَرءُ المَخبوزات، كلما تفاقم توقُه لها وعَجزَ عن التخلُّص من إغوائها. 

***

حاولت فى بعض المرَّات أن أحاكى المَهَرة من الصَّديقات والأصدقاء، وأن أصنع نوعًا من البسكويت. حصلت على الوَصفة ورحت أتبع الخطواتِ فى حماسةٍ بالغة وأزيد من أفكارى عليها؛ لكن الحصيلةَ جاءت فى نهاية الأمر مُضحِكة. كرَّرت التجربة ولم تتغيَّر النتيجة؛ وأخيرًا اعترفت بأن لكل امرئ صنعته التى يتقنها ويُجيد فنونها، وبأن محاولاتِ التجويد التى شرَعت فيها قبل تحقيق أى نجاحٍ يُذكَر؛ لم تكن أبدًا فى محلها.  

***

غنَّى إيمان البحر درويش لأم اسماعين التى «تزرع وتقلع فى الغيط ويا راجلها وتعاود تانى لعجينها وغسيلها»، الكلماتُ لبديع خيرى واللحنُ وفضلُ الأداءِ الأول هما بالطبع لخالد الذكر سيد درويش، أما «أم اسماعين» التى بدت فى الأغنية نشطة سعيدة؛ فقد أُضيفَت إلى كاهلها مؤخرًا أعباءٌ لا تُطاق إذا ما قُورِنَت بالعَجنِ والخَبزِ وأعمالِ الزراعة والحَصاد. تدهوَرت الأحوالُ الاقتصادية بما لا يُنكَر، ولم يعد كثيرُ الرجالِ عونًا على حَملِ المسئولية؛ بل أمسوا فى معظم الأحايين عاطلين عن الفِعل، مُعتمِدين على كَدح النساء.

***

فى رواية «الخبز الحافى» التى قدَّمها الكاتبُ المغربى محمد شكرى بمَطلع السَّبعينيات؛ إدانةٌ صارخةٌ لواقع البؤس الدامى تحت نيرِ الاحتلال، وإبرازٌ لوطأة الجُّوع والفقر وما يَصحبهما من تفشّى للجَّهل والخُرافة، وما يتأسَّس فى ظلهما من تفاعلاتٍ نفسيَّة عنيفة وعميقة. تُرجِمَت الروايةُ إلى عِدَّة لغات، وحَظت بجدلٍ واسع؛ شأنها شأن الأعمالِ الكبرى التى تفضح مآسى المُجتمع.

***

يقولُ الموروثُ الدينى الذى تحوَّل إلى حِكمة واسعة الاستخدام: ليس بالخُبزِ وحده يحيا الإنسان. يَستحضِر أغلبنا العبارة ما أراد التنويه إلى أن ثمَّة مَعارفَ ومَدارك تغذى العقلَ والروح وتحفظ للبشر تلك المرتبة العليا التى يَحظون بها؛ أما وقد فقدت الحِكمةُ رمزيتها، وراح كثيرُ الأشخاص يبحثون فعليًا عما يَسدُّ رمقَهم ويكفيهم مَذلة الجُّوع ويبقيهم على قيد الحياة، فلا عجب إن توارى العقل جانبًا، وذبلت الروح.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات