المَدرَسَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 22 فبراير 2025 10:26 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

المَدرَسَة

نشر فى : الجمعة 21 فبراير 2025 - 7:05 م | آخر تحديث : الجمعة 21 فبراير 2025 - 7:05 م

منذ قديم الأزل أنشِئَت المَدارسُ وما في حُكمها من أمكنة؛ يرتادها الصِغار كي ينهلوا من العِلم صُنوفًا شتَّى. تطوَّرت الحياةُ وقامَت المُجتمعاتُ الحديثة ومعها تقدَّمت أشكالُ التعليم وتبنَّت البلدانُ كلٌّ ما رآه مناسبًا لظروفِه واحتياجاته. لسنا في الحقيقة بأعجوبةٍ لنعاني هذا التردُّد والارتباك الهائلين في نظامِ التعليم القائم لدينا. تارةً نمضي مع نظام السَّنة الواحدة النهائية في المَرحلة الثانوية، ونقسمها ما بين علميّ وأدبي، وتارةً نصنع منها سنتين، وأخرى نفصلُ ما بين العلوم والرياضيات في القسمَ العلميَّ، ثم نعاود التفكير والتَّمحيص؛ إلى أن نصلَ لضرورة الاستعانة بالبكالوريا وكأنها اكتشافٌ جديد، وبالتوازي نلغي نظامَ الكتاتيب ثم نُرجعها للعمل بجرَّة قلم. هذا التخبُّط مَصحوبٌ بعدم تقدير مُتواصل للمُدرسين أنفسهم؛ وكأنهم تجارٌ يتحصَّلون على مَدخولهم بالقطعة وأحيانًا بالجُملة، والحقُّ أن التجارةَ مِهنة لا غبار عليها؛ لكن البضاعةَ لا يمكن أن تكون عِلمًا.

• • •

المَدرسةُ اسمُ مكان مُشتقٌّ من الفِعل دَرس، الفاعلُ دارسٌ والمَفعول به مَدروس والدُّروس نفسُها أنواع؛ منها ما يقع في حقلِ الطبيِعة وما يَنتمي للاجتماع وما تضمُّه طائفةُ اللغاتِ والفنون. التخصُّص في مجال بعينه مُحبَّذ؛ لكن الجهلَ الكاملَ بالأفرع الأخرى نقيصَة.

• • •

قال حافظ ابراهيم: الأمُ مدرسةٌ إذا أعدَدتها .. أعدَدت شعبًا طيبَ الأعرَاق. انطبق القولُ ولا شكّ على عَصرِه، أما لاحقًا فلم يَعد للأم ولا للبيت بأكمله ذاك التأثيرُ العَميقُ على الأطفال. تعدَّدت المَصادر التي يَستقي منها الصَّغيرُ سلوكياته، وتنوَّعت المُعطيات التي يَستقبلها ليلَ نهار. ظهرت أيقوناتٌ مُتدنية القيمة، وتحوَّلت القدواتُ إلى صُور كثيرها مشوَّه مَمسوخ؛ وعَجزَت أغلبُ الأسَر عن فرضِ مبادئ بعينها أو وَضع ناموس يتبعه أفرادُها.

• • •

ما من شكّ أن الحياةُ مدرسةٌ واسعةٌ، قادرةٌ على تلقين البشر صنوفًا من المَعارف؛ وإن لم يَسعوا إليها. يَخرج المَرءُ من تجربة ليبدأ الثانية، وفي الطريقِ تتكوَّن رؤيتُه وتُصقَل أفكارُه، ويَكتسِب من الخبرات ما يؤهله للاستمرار والمُضيّ قدمًا. البليد في مَدرسةِ الحياة لا يُحقّق أغلبَ الأحيان هدفًا ولا يرتقي سُّلمًا.

• • •

قدَّمت مسرحيةُ "مدرسة المشاغبين" نموذجًا فريدًا في حينه؛ لهؤلاءِ الطلبة الفاشلين دراسيّا وأخلاقيًا على حدٍ سواء. أدَّت العظيمة سهير البابلي دورًا لا يُنسى ومعها مَجموعة من أفضل المُمثلين؛ لكن المَسرحيةَ حَظت -ولم تزل- بنقدٍ عنيف، مَبعثه شعورٌ انتابَ الناسَ بأنها قد كسرَت جُدران الاحترام وأعطت نموذجًا مارقًا تَبِعه التلامذةُ من بعد. السَّاخطون على النصّ والحانقون على أبطالِ العَرض يُغفِلون التطوُّرات المُتوقَّعة التي تمُر بها المُجتمعات، ويتجاهلون مَجموع العوامل السياسيَّة والاقتصاديَّة التي تُلقي بظلالها على المناحي كافة، يلقون باللائمة على العمل الفنيّ، ويُكرّسون بتوجُّههم هذا فكرةَ الرسالةَ الحميدةَ التي يَجب على الفنان الالتزام بها. المَسرحية التي أخرجها جلال الشرقاوي مَطلع السبعينيات مأخوذه عن النصّ الإنجليزي: "إلى مُعلمي مع الحبّ".

• • •

أذكر في زيارةٍ عائلية وقد عَرجَ الحديثُ نحو أغنية لكاظم الساهر؛ أحدَ الأقرباء وهو يثور ثورةً عارمةً بسبب إعجابنا بمقطع يقول: امرأةً تجمَع أجزائي كشظايا البلُّلور المَكسور. راح يَقفز في صالةِ البَيت صائحًا بأنه لا يسمح لامرأة أن تكسرَه وترمّمَه. غَضبُه فاقَ قدرتنا على التفاعل المَنطقيّ الهادئ؛ فسقط بعضُنا في نوبة من الضَّحك، وتحوَّل الأمر إلى طرفة، نستدعيها حين نتلاقى من جديد. عنوان الأغنية "مدرسة الحب"؛ كتبها نزار قباني الذي حَملَ مُتفردًا لقبَ شاعر المرأة، والمَدرَسةُ التي ذكرها شاملةٌ جامعة؛ قلَّ أن يهربَ منها امرؤٌ أو يُفلِت من حِصَصِها تلميذ. 

• • •

يَدرسُ الطبيبُ الحالةَ ثم يقوم بالتشخِيص ووَصف العِلاج. العلاجُ مدارسٌ واتجاهات؛ بعضُ الأطباءِ يعتمدون على مُقاومةِ الجَّسد للمَرض ولا يكتبون دواءً إلا في حالاتٍ حَرجةٍ مُستعصِيَة، والبعضُ الآخر يَميلُ إلى حَسم المَوقِف مُبكرًا وتعبئة الجَّسد بالمواد الكيميائية التي تقضي على سَببِ العِلة. هناك من يُعطي فرصة للتعافي دون جراحة، ومَن يُحبذ أن يبدأ بها، وبين هذا وذاك طيفٌ واسع من المحاولات؛ يمكن للمريض أن ينتقيَ من بينها؛ لكن المدرسةَ المِصريَّة التي ينتمي إليها أغلبُ المَرضى؛ تجعلُ للطبيبِ الرأيَ الأولَ والأخير، وتعزف عن تحمُّل مشقَّة الاختيار.

• • •

تتنوع مدارسُ الفنّ التشكيليّ ما بين كلاسيكيَّة وتأثيريًّة وتكعيبيًّة وسورياليًّة وغيرها، والحقُّ أن أقربها وصفًا لواقعنا الحالي هي الدَّادية رغم كونها الأقل شهرة. ظهرت الدادية كحركة ثقافية شاملة قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى، وكان اختيار اسمِها في حدّ ذاته عملًا عبثيًا بالدرجة الأولى؛ إذ يُحكى أن فنانين ومثقفين قد اجتمعوا في حانة فولتير، واختاروا صفحةً عشوائيةً من القاموس الفرنسيّ الألمانيّ، وكان أن وقعوا على كلمةِ دادا التي تشير إلى لعبة خشبيَّة للصغار في هيئةَ حِصان، ومن ثمَّ اتخذوها عنوانًا لمدرستهم التي عنِيَت بتحطيم الفنّ التقليديّ، عاكسة مشاعر الخرابِ والتفكُّك.

• • •

تأسَّست مدارسُ الأحد في العام ألف وتسعمائة وثمانية عشر على يدّ القديس حَبيب جِرجِس، بهدف تلقين التعاليمِ الدينية للأطفال، وقد اتسَعت فكرتُه وخدمَت كثيرين، بيد أنها لم تكن إنجازه الوحيد؛ فقد تولى التدريسَ في الكلية الإكليركية بعد تخرُّجه، وإليه يُعزى فضلُ إحيائِها من بعد تراجُع وأفول.

• • •

سَمعنا من الكبار أن الدَّرسَ الخُصوصِيّ كان ذات يوم عيبًا، لا يدلُّ سوى على خَيبة التلميذ؛ لكنه تحوَّل لاحقًا إلى مَبعث فَخرٍ وتباهي بالقُّدرة المَادية، وأخيرًا بات طقسًا مُستقرًا يُجبَر عليه الطلابُ ولو لم تكُن لهم به حاجة؛ بل واتَّسع نطاقه وبَسط نفوذَه على مَجالات شتَّى فتحوَّلت مدارسُ الرياضة في النوادي بدورِها إلى مَلاعب للدروسِ الخصوصيَّة؛ يريد الأبُ أن يرى ولدَه في الفريق الأساسي، وتكايد الأم الأخرياتِ بالحديث عن مُستقبلٍ واعدٍ بشَّر به المُدرب، والأسرة كلها تُسخر جهودَها لا من أجلِ الإنجاز الرياضي؛ إنما لتحقيق الوجاهةِ الاجتماعية المَنشودة. 

• • •

في نهاية فيلم "لصوص لكن ظرفاء"؛ يُردّد عادل إمام كلمات أحمد مظهر "كلّ شيء مَدروس" بعد أن يُلقي القَّبض عليهما لمحاولة سَرقة مَحلّ مُجوهرات. الخُطة التي وَضعها مَظهر كانت بالفعل مَدروسة؛ لكن سُوءَ الحظّ والأحداث غير المُتوقَّعة أفشلا المَسعى. بعضُ المرات يظنُّ الواحد أنه قد امتلك المَوقف؛ فإذا بالأمور تخرجُ عن السَّيطرة، وإذا بالسّحر ينقلبُ على السَّاحر.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات