جَلست مُصادفة لدى أحد المطاعم الضّيقة المُتجاورة التي تشبه صناديق المكعّبات؛ والتي انتشرت مَحلّ الحدائق في كل زاوية ومكان. تَركْت كعادتي الصالة المغلقة؛ المسموح فيها تجاوزا باستعمال السجائر والشيشة، واخترت مطرحا في الهواء الطلق، يقع على المَمر الواصل بين اتجاهي الشارع الواسع. تابعت من موقعي النائي عن الضجَّة والذي يهرب منه أغلب القادمين؛ المشهدَ الكّلي.
• • •
كان الزبائن الموزّعون في الأرجاء يطلبون ما صادف أمزجتهم ووافق أهواءهم، تصلهم أكوابهم وأطباقهم الدافئة في صورة أنيقة وجميلة فيما يتسامرون ويتضاحكون؛ بينما عابرو الشارع الذين اعتادوا اختراق الحديقة قاصدين الجانب المقابل؛ يمرون اضطرارا بين المناضد والمقاعد، ويلقون عفوا أو عمدا نظراتهم إلى الجالسين. تواتر أمامي أطفال متواضعو الملبس هزيلو الأجساد، وشبّان يعملون في توصيل الطلبات وآخرون يبيعون جوارب وفواحات، ونساء يحملن أكياسا بها بعض الأرغفة. رأيت وُجوه المارّة مهمومٌ معظمها والملامحَ جامدة باردة، وقد بدا الخليط البشريّ الحاضر في تلك اللحظة وفي مَطرَح واحد؛ مُتنافرا لأقصى الحدود، باعثا على الشعور بالذَنب بدلا من البهجة.
• • •
المَطرَح اسم مكان من الفعل طَرَح؛ وله أكثر من معنى واستخدام. الفاعلُ طارحٌ والمَفعول به مَطروحٌ، والمصدر طَرْح بتسكين حرف الراء، أما الأطروحة؛ ففكرة كبرى يدور حولها نقاش جاد أو تُكتَب أوراقٌ ومقالات، وإذا قيل أطروحة الدكتوراه؛ فالموضوع الرئيس الذي يطرقُه الباحثُ في رسالته، لنيلِ الدرجة المرموقة.
• • •
قال الجاحظُ من قديم الزمان: "المعاني مَطروحةٌ في الطريق؛ يعرفها العَجَميُّ والعَرَبيُّ، والبَدَويُّ والقّرويُّ والمَدنيّ، إنما الشأن في إقامة الوَزن وتخيُّر اللفظ"، والقّصد أن يعتنيَ المرء بسلاسة التعبير وفَصاحة الأسلوب؛ فإن لم يكن قويَّ البيان، مُتمكنا من لغته مُلمًا بقواعدها وأصولها؛ خاب في مُهمّته وعَجز عن تَوصيل مُبتغاه للمُتلقين.
• • •
إن استأذن قريبٌ أو صديقٌ في تحديد موعد زيارة منزلية؛ جاوبه المضيفُ تلقائيا: بيتك ومَطرحك، وإن أبدى الضّيفُ امتنانه على مائدة دُعيَ إليها، أو أعرب عن إعجابه بالطعام وأظهر نهمًا وإقبالا، قيل: مَطرَح ما يَسري يَمري. طبيعة المطرح في العبارتين مختلفة؛ فمِن جُدران تضمّ أهلها وترحب بالوافدين عليها، إلى مَعِدة تستقبل الطعام الذي يدخلها، وتهضمه وتستخلصُ منه الفائدة.
• • •
ربما يكون البيت ضيقًا من ناحية المساحة الفعلية، يستحي الزائرون أن يتكاثروا عليه؛ لكن أصحابَه الودودين، المحبين للتجمّع والتلاقي، المتمسكين بأصول اللياقة ومقتضياتها؛ يؤكدون أن المَطرحَ يَسع من الحبايب ألفًا، والمراد أن العلاقات الطيبة تضفي على الأجواء لطفًا وسِعة، والعكس إن كان بين الحاضرين خلاف وشقاق؛ إذ لضاق بهم حينها المكانُ، ولو اختاروا ملعبًا شاسعًا، مُتراميَ الأركان.
• • •
يُقال إن الشّجرة طرَحت حين تظهر ثمارها، وكذلك يقال عن الأرض حين تطلُّ منها النبْتاتُ في بواكيرها. منظر البراعم والثمرات طيب بهيج؛ علامة خير وبشارة نماء ووَفرة. بعض المحاصيل الزراعيّة تظهر في غير مَواسمها المعلومة، تطرح في صوبات أو تنمو باستخدام طرق حديثة؛ لكنها في أغلب الأحيان عديمة المذاق رديئة، والظنّ أن دَورةَ الأرض والمُناخ وسطوة الطبيعة؛ لمِما تستعصي معاندته ويتعذَر تطويعه.
• • •
طَرح البحر هو كلّ ما يلفظ الجوف ويُلقي على البر؛ قد يكون خشبًا باليًا، قطعا من معدن أصابها الصّدأ، نسيجا مهترئا لا تظهر معالمه، أغراضا ضاعت من أصحابها وفقدوا أمل العثور عليها، عوامات تائهة سافر بها التيار أميالا، وربما صدفات جميلة تركت القاع في لحظة ثورانه. قضيت منذ أعوام خلت، أياما لا تنسى على شواطئ العجمي؛ حيث الأمواج شديدة الارتفاع والصّخْب، والأفق رحب مفتوح. جَمَعت بعضَ ما انطرح على الرمال وقد رأيت فيه جمالا غير مألوف، قطعًا فنيّة تحمل حَميميَة غريبة؛ لم يزل بعضها مختبئا في صندوقي الخاص.
• • •
اقترح الرئيس الأمريكي توزيع المواطنين الغزيين ما بين مصر والأردن، فحظى مقترحه باستهجان واسع النطاق لم يقتصر على الدولتين المعنيتين؛ بل امتد لحكومات دول أوروبية وأخرى لاتينية وثالثة أفريقية وعربية؛ إذ حملت الفكرة من الحُمق ما يستعصي التعامل معه على أرضية المنطق. بعض المواقف التي يصادفها المرء تحتاج إلى وقفة حاسمة، لا تهاون فيها ولا مُساومة؛ رد صريح يُحدد المَواقع ويُلزم المُتعديَ مكانًا لا يبارحه؛ عملًا بالأمثولة الشعبيّة الشهيرة: مَطرَح ما تحُط رأسك حُط رجليك.
• • •
قد يتمكّن الواحد خلال معركة حقيقية أو لُعبة رياضية، من طرح غريمه أرضًا؛ والمعنى أن يُسقطه بقوة وكفاءة. بعض المرات يكتفي بما حقّق من انتصار مشهود، أو يُواصل ما بدأ دون هوادة؛ إلى أن تكتمل الصورة بإعلان المطروح استسلامه التام.
• • •
كثيرًا ما نسمع الدعاء الطيّب: ربنا يطرح فيك البركة، أو: ربنا يبارك لك في صحتك. يأتي القول في العادة عرفانًا وامتنانًا، ويترك أثرًا مُحببًا في نَفْس مُتلقيه وإن بدى تافهًا بسيطًا. البركة ليست بشيء مادي في الإمكان لمسه أو مشاهدته، إنما هي أمر غامض مُحيّر؛ ندركه بحدسنا ونتمناه في يومنا ولا نملك له تعريفًا واضحًا. ترتبط البركةُ في أذهاننا بالعمل الصالح، وبالمَسلك الحميد الذي يسلكه الواحد ولو بين الحين والآخر.
• • •
يقوم علمُ الرياضيات على حسابات لا محلّ فيها لمبالغة أو تهوين؛ فمن قسمة وضرب إلى جمع وطرح؛ ينتهي الأمر ولو طال بنواتج ثابتة معلومة، لا تقبل التفاوت مهما تبدّل القائم بها. المعادلات الحاسمة مريحة ولا جدال؛ لكن إخضاع الواقع لها مستحيل؛ خاصة ما ناء بحماقات السادة المتحكمين فيه، وتزلزلت عروشه بأفعال شائنة مَوتورة.
• • •
الطرحَةُ قطعة من نسيج تُوضع على الرّأس، وإذ يُقال عن جمع من الرجال: لبسوا الطرح، فسخرية من عجزهم وهوان شأنهم، والمُراد تشبيههم بالنساء في ضعفهن وخضوعهن وخوفهن من المواجهة، والحقّ أن الطرحة قد حُمِّلت بأكثر مما ينبغي لها؛ فأكم من امرأة وَضعتها وقادت جموع، وأكم من رَجل عاش عاري الرأس؛ لكنه أحنى عنقَه وهان.