منذ بدأت فترة الرئاسة الأخيرة للرئيس «دونالد ترامب» والعالم يتلقّى العديد من الصدمات اليومية على أثر ما يعتقد أنه آلية «الصدمة والترويع»، فى التعامل مع خصوم التجارة على وجه الخصوص. وفى فكر الاقتصادى الأمريكى «ميلتون فريدمان» يمكن للأزمات والكوارث - فقط - أن تنتج تغييرا حقيقيا، حيث كان «فريدمان» مؤمنا بضرورة التحرك السريع فى أعقاب الأزمات لفرض تغييرات دائمة، قبل أن يتمكن المجتمع من العودة إلى حالة الاستقرار التقليدية، أو ما يمكن وصفه بـ«شدة وطأة ظروف ما بعد الكارثة»، وهو مفهوم يعكس نصيحة مكيافيلى بضرورة إيقاع «الأضرار دفعة واحدة».
تلك الفلسفة فهمته «ناعومى كلاين» (صاحبة كتاب عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث» الصادر عام 2009) باعتبارها التكتيك السرى للرأسمالية المعاصرة، وهى ما وصفته بـ«مبدأ الصدمة». ويشير كتاب «كلاين» إلى أن السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التى دعا إليها «فريدمان» ومدرسة شيكاغو (مثل الخصخصة، وتحرير التجارة، وخفض الإنفاق الاجتماعى) كان لها تأثيرات كارثية. حيث أدت إلى تفاقم الفقر والكساد، بالإضافة إلى تمكين الشركات الخاصة من نهب المال العام. وقد تم تنفيذ هذه «الإصلاحات» اعتمادًا على اضطرابات سياسية، وكوارث طبيعية، وظروف قسرية لفرض سياسات السوق الحرة التى غالبًا ما قوبلت بالرفض الشعبى.
الملفت أن «فريدمان» هو مؤسس مدرسة شيكاغو فى الاقتصاد، الداعية لإطلاق الحريات الاقتصادية بلا حدود أو قيود، والتى تعد أكبر المعارضين للفكر الكينزى التقليدى، الداعى إلى تدخّل الدولة. ومن الواضح أن النزعة الانتقائية فى إدارة «ترامب» تعمد إلى تبنّى فكر «فريدمان» فيما يخص خفض التنظيم الحكومى de-regulation ومن ثم خفض الإنفاق العام، والنكوص عن التمويل بالعجز والتوسّع فى الاستدانة، ولكن الإدارة ذاتها تهدم أساس الحريات الاقتصادية، بالنزوع إلى فرض قيود تجارية غير مسبوقة، للتعامل مع اختلالات الاقتصاد الأمريكى، المنطقية فى ظل ممارسة الولايات المتحدة لأدوار استثنائية فى الاقتصاد العالمى.
وإذا أردنا أن نقرأ سياسات «ترامب» من منظور الرهان على الصدمات وردود الأفعال الملتبسة، فإن أقرب النظريات التى يمكن التعويل عليها فى هذا السياق هى نظرية اللعبة. وهى فرع من الرياضيات التطبيقية يدرس كيفية اتخاذ القرارات الاستراتيجية بين الأطراف المختلفة، عندما تتداخل مصالحهم أو تتعارض. تعتبر هذه النظرية أداة قوية لفهم السلوك الاقتصادى والاجتماعى والسياسى، حيث تُساعد على تحليل الخيارات المتاحة لكل طرف وتأثيراتها المتبادلة. تُستخدم نظرية اللعبة بشكل واسع لفهم النزاعات التجارية، والتحالفات الاقتصادية، والمفاوضات الدولية، مما يجعلها مثالية لتحليل ديناميكيات الحرب التجارية العالمية وتأثيرها على مختلف الدول.
• • •
من خلال تطبيق مفهوم نظرية اللعبة، يمكننا تحديد أفضل الاستراتيجيات التى تُتيح لدولة مثل مصر التكيف مع التداعيات غير المباشرة للحرب التجارية بين القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين وأوروبا. يمكن لهذه الاستراتيجيات أن تُساهم فى تحقيق توازن اقتصادى وتقليل المخاطر على مستوى معدلات النمو، التجارة، تدفقات رأس المال، التضخم، والاحتياطيات الأجنبية. بناءً على ذلك، تُصبح نظرية اللعبة أداة جوهرية لفهم الخيارات المتاحة لمصر فى مواجهة هذه التحديات، وتوجيه السياسات التى تعزز الاستقرار الاقتصادى على المدى الطويل.
ظهرت نظرية اللعبة كأداة تحليلية فى الاقتصاد بفضل الإضافات المبكّرة التى قادها «جون فون نيومان» و«أوسكار مورجنسترن» فى كتابهما «نظرية الألعاب والسلوك الاقتصادى» عام 1944. ركّز هذا العمل على كيفية اتخاذ القرارات فى ظل ظروف تنافسية أو تعاونية، مما يجعل النظرية ذات صلة كبيرة فى مجالات مثل الاقتصاد، السياسة، وعلم الاجتماع. لكن دور جون ناش كان محوريًا فى تطوير النظرية بشكل أعمق. حيث قدّم مفهوم «توازن ناش»، وهو حالة يمكن فيها لجميع الأطراف المعنية اتخاذ أفضل استراتيجية ممكنة بناءً على استراتيجيات الآخرين، وتحقيق التوازن دون الحاجة لتغيير قراراتهم. هذا المفهوم، الذى نشره ناش فى ورقته البحثية عام 1950، غير قواعد اللعبة بالكامل فى مجالات متعددة، بما فى ذلك الاقتصاد، والعلاقات الدولية، والعلوم السياسية.
ويعتبر موقع مصر من الحرب التجارية الجارية بين الولايات المتحدة والعالم، غير محورى، إذ تتعرض مصر لمخاطر التأثر باضطرابات فترة الحرب، والتوازنات الجديدة التى يتوقّع أن تنشأ بعد انتهاء تلك الحرب، من ذلك مثلا: الأثر غير المباشر للرسوم الجمركية على مختلف متغيرات الاقتصاد العالمى مثل: تراجع النمو، وتحويل التجارة، ونزوح رأس المال، وتقلب أسواق السلع، وزيادة التضخم، وارتباك سوق الدين والبنوك المركزية..
وإذا تهيأ استخدام نظرية اللعبة فى سياق دراسة موقف مصر من حروب التجارة، فإنه يمكننا تحليل استراتيجيات مصرية محتملة لتقليل المخاطر الاقتصادية، وحماية المتغيرات الرئيسة مثل حركة التجارة، تدفقات رأس المال، نمو الناتج المحلى الإجمالى، البطالة، التضخم، والاحتياطيات الأجنبية.
• • •
لدى مصر عدة استراتيجيات للتكيف مع التأثيرات غير المباشرة للحرب التجارية، تشمل: الدبلوماسية الحذرة، تنويع التجارة إقليميا، التعزيز الاقتصادى، والتأنّى الاستراتيجى. تستهدف كل استراتيجية تحديات محددة مع الحفاظ على المرونة للاستجابة للتغيرات فى الاقتصاد العالمى.
الدبلوماسية الحذرة: تعتمد على تحقيق توازن فى العلاقات مع الأطراف المتنازعة فى الحرب التجارية، إذ تهدف إلى تجنب الانحياز لطرف معين، مما يقلل من المخاطر السياسية والاقتصادية التى قد تترتب على اتخاذ مواقف غير متوازنة. كما تسهم الدبلوماسية الحذرة فى تعزيز الثقة مع الشركاء التجاريين الحاليين والمحتملين، مما يساعد على الحفاظ على تدفقات رأس المال والتجارة.
تنويع التجارة إقليميا: تعد هذه الاستراتيجية أساسية لتقليل الاعتماد على شركاء تجاريين معينين، خاصة أولئك الذين يتأثرون بشكل مباشر بالحرب التجارية. تسعى مصر من خلالها إلى توسيع نطاق شراكاتها التجارية داخل أوروبا وإفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، مما يعزز الاستقرار الاقتصادى ويقلل من تأثير تقلبات الأسواق العالمية. كما يعزز التنويع التجارة الإقليمية قدرة مصر على الاستفادة من الفرص الناتجة عن تحول التجارة العالمية.
التعزيز الاقتصادى: يهدف إلى بناء قاعدة اقتصادية قوية قادرة على تحمل الضغوط الناتجة عن الحرب التجارية. يشمل ذلك الحفاظ على استقرار أسعار الصرف، تعزيز احتياطيات النقد الأجنبى، ودعم الصناعات المحلية من خلال زيادة الإنتاجية وتشجيع الاستثمار، إعادة هيكلة الديون. هذه الاستراتيجية تتيح لمصر القدرة على مواجهة الصدمات الاقتصادية العالمية دون تعريض اقتصادها للخطر.
التأنى الاستراتيجى: يرتكز على المراقبة الدقيقة للتطورات العالمية واتخاذ قرارات مدروسة بناءً على البيانات والتحليلات بدلا من التحركات السريعة أو اتخاذ موقف استباقى أو لعب دور قيادى غير ضرورى فى الصراع. يتيح الصبر الاستراتيجى لمصر التكيّف مع التغيرات الدولية بشكل تدريجى، مع تجنّب المخاطر المرتبطة باتخاذ قرارات قد تؤدى إلى تداعيات غير محسوبة.
من خلال هذه الاستراتيجيات المتكاملة يمكن لمصر الحفاظ على استقرارها الاقتصادى والعمل على تعزيز قدرتها التنافسية فى بيئة دولية زاخرة بالتحديات. هذا النهج يتيح لها الاستفادة من الفرص المستحدثة، دون أن تتأثر بشكل كبير بالتداعيات السلبية للصراعات التجارية.
وإن كان ثمة «استراتيجية مسيطرة» (تتخذ بغض النظر عن أفعال الآخرين) لمصر عبر جميع سيناريوهات التصعيد فى الصراع الدائر أو حتى التهدئة، فهى التنويع الإقليمى للتجارة وتعزيز الاقتصاد، حيث إنها تقلل الاعتماد على اللاعبين الرئيسيين، وتستفيد من فرص تحويل التجارة، وتبنى المرونة.
كما يمكن لمصر أن تحقق توازن «ناش» عند الجمع بين تنويع تجارتها وتبنّى الدبلوماسية الحذرة. هذا المزيج يخلق موقفًا مستقرًا، حيث تستفيد مصر من تحوّلات التجارة وتتجنب تصعيد التوترات مع اللاعبين الرئيسيين. ومن خلال الجمع بين الدبلوماسية الحذرة، التعزيز الاقتصادى، وتنويع التجارة الإقليمى، تحسّن مصر العوائد عبر المتغيرات الرئيسية. تحمى الاحتياطيات الأجنبية، يتم السيطرة على التضخم، وتستفيد من فرص نمو الناتج المحلى الإجمالى.
كاتب ومحلل اقتصادى