حينما كرّم الرئيس الطبيب البطل محمود سامى قنيبر - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الأحد 13 أبريل 2025 6:53 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

حينما كرّم الرئيس الطبيب البطل محمود سامى قنيبر

نشر فى : السبت 12 أبريل 2025 - 8:05 م | آخر تحديث : السبت 12 أبريل 2025 - 8:05 م

أحكى اليوم عن قصة من قصص بطولات وتضحيات هذا الشعب العظيم المكافح. أحكى عن تضحيات الناس العادية أبناء النيل الذين يخدمون وطنهم بلا شعارات ولا أغراض، ولكن بأفعال حقيقية تعبر عن الوفاء والاستعداد للتضحية من أجلنا جميعا، من أجل مصر وشعبها الكريم!
بطل قصتنا اليوم شاب ناجح ومكافح من محافظة كفر الشيخ، تخرج من طب القصر العينى، وتخصص فى أمراض الباطنة والحميات، تزوج لمدة ١١ عاما دون إنجاب، ولكن أذن الله له أخيرا بنعمة الأولاد، فأكرمه بطفله الذى أسماه يحيى والذى فرح كثيرا لمولده، لكن لم يمهله القدر وقتا كافيا للتمتع بالنظر بمولده الذى طال انتظاره، إذ ضرب وباء كورونا مصر كما ضرب العالم كله ليزلزل أقوى اقتصاديات العالم ويتحدى أكثر الأنظمة الصحية تطورا فى العالم.
تم استدعاء العديد من الأطباء فى جميع أنحاء مصر من أجل نداء الواجب، من أجل مواجهة هذا الوحش غير المرئى، لكن لم يكن منهم صاحب قصتنا الدكتور محمود سامى قنيبر، حيث حصل د. محمود والذى كان وقتها يعمل كطبيب فى مستشفى حميات كفر الشيخ على استثناء بسبب إصابته بمرض مناعى نادر وبسبب أيضا وجود طفل رضيع قد ولد لتوه فى منزل د. محمود!
لكن وعلى عكس المتوقع، ذهب د. محمود إلى المسئولين محتجا على استبعاده ومطالبا أن يتطوع ليعمل فى مستشفيات العزل بالمحافظة! تعجب المسئولون من هذا الموقف، لدرجة أن الطبيب المسئول عن توزيع الأطباء على مستشفيات العزل بالمحافظة اعتقد أن د. محمود يمر بأزمة مالية وفى حاجة للمال ومن أجل ذلك يحتج على استبعاده، عارضا بشكل كريم مساعدته إن كان يمر بأزمة مالية دون أن يقوم بتوزيعه على مستشفيات العزل، لكن أكد له البطل صاحب قصتنا أنه بالفعل يرغب فى التطوع بسبب علمه بالظروف الصعبة فى هذه المستشفيات، وكذلك لعلمه بأن قلة من الأطباء تحاول تجنب الذهاب لمستشفيات العزل إما بسبب الخوف على أسرهم أو لأسباب أخرى قد يكون بعضها سياسيا، وأمام إلحاح بطلنا تم الاستجابة لطلبه وتم توزيعه للخدمة فى مستشفى العزل بمدينة بلطيم، ليترك طفله يحيى بعد عشرة أيام فقط من الولادة، ويصل إلى مستشفى بلطيم يوم الجمعة ٢ مايو عام ٢٠٢٠ ويبدأ فى ممارسة عمله على الفور.
• • •
بعد أسبوع واحد فقط من وجوده بالمستشفى، جاء يوم الجمعة ٩ مايو وكان هناك ضغط عمل شديد بسبب تحويل بعض الحالات الخطرة من حميات العباسية وإمبابة بالقاهرة إلى بلطيم، حكى لى د. محمود كيف كان يوم العمل هذا مرهقا للغاية وخاصة وأن ذلك كان فى أيام الشهر الكريم وكان يعمل وهو صائم، فشعر بتعب شديد قبل الإفطار بعدة ساعات، فعاد إلى مقر سكن الأطباء بالقرب من المستشفى ليدخل فى نوبة دوار وصداع وهزال شديد، فخلد إلى النوم قليلا ليوقظه الطبيب الذى كان يقيم معه فى السكن لتناول الإفطار، إلا أنه ظل يعانى من تعب شديد حتى تم نقله إلى مستشفى الصدر فى كفر الشيخ هذه الليلة ليستيقظ فى اليوم الثانى ١٠ مايو ليجد نفسه فى ظلام دامس!
يقول دكتور محمود الذى أعرفه كصديق ومتابع شخصى لمقالاتى المتواضعة فى جريدة الشروق منذ عام ٢٠١٢ فى مكالمة تليفونية معى، أنه اعتقد أن هذا هو الموت! فقد أخذ يستذكر بصعوبة ما حدث فى اليوم السابق، واستنتج أنه ميت لأن الدنيا ظلام دامس رغم أنه يسمع بعض الأصوات من بعيد، لكن بعد دقائق، اكتشف الحقيقة المرة، لقد فقد بصره بسبب العدوى، نعم لم يكن هذا كابوسا ولا موتا، ولكنها حقيقة!
بعد رحلة إلى عدة مستشفيات استقر به الحال فى المركز الطبى العالمى الذى أبلغه الأطباء المتخصصون به بأن عصب البصر قد تدمر تماما فى عينه اليسرى وبنسبة ٩٠٪ فى عينه اليمنى وأن الأمل فى عودة الإبصار شبه مستحيل! عاش د. محمود أياما صعبة وعاد أخيرا إلى بيته ليسمع ابنه يحيى دون أن يكون قادرا على رؤيته، فلم يمهله القدر سوى عدة أيام لرؤية الطفل بعد ولادته، ثم كان ما كان!
تعرض د. محمود لأيام عصيبة ولولا وقوف زوجته وأقاربه وأصدقائه معه لكان انتحر، وقد فكرا جديا فى ذلك، ولكن ألهمه الله الصبر على الابتلاء وشعر أنه يجب ألا يستسلم من أجل صغيره الرضيع!
• • •
كانت مكافأة صبره أن رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسى وبعد أن علم بقصته، طلب فورا مقابلة د. محمود ليكرمه فى احتفال كبير فى مارس عام ٢٠٢١! يقول بطلنا إن سعادة غامرة انتابته لأنه شعر أن رأس الدولة المصرية ورمزها يكرمه مما أشعر طبيبنا بأن نظره لم يذهب هباء! سأل الرئيس السيسى د. محمود أثناء التكريم، عما يريده، فأجاب بأنه يكفى ما لدى الرئيس من مسئوليات، فطالبه الرئيس ثانية بأن يطلب ما يريد، يقول دكتور محمود شعرت أن حب الرئيس وتقديره لى من القلب فكررت بأننى لا أريد شيئا، ولكن أصر الرئيس الذى فى النهاية أعطى توجيهات واضحة لوزارة الصحة ولكل الجهات المسئولة بتوفير عمل يلائم ظروف د. محمود الصحية الجديدة بالإضافة إلى توفير معاش أو مبلغ شهرى يليق به، كما كانت توجيهات الرئيس واضحة بحصول د. محمود على أى تدريبات مناسبة ليعمل فى مجال جديد.
ترك لقاء الرئيس وحفاوته وتواضعه وحرصه على إعطاء بطلنا دفعة لبداية مرحلة جديدة فى الحياة أملا كبيرا لديه، وبعد انتهاء التكريم، اهتم المسئولون بالفعل فى وزارة الصحة وفى محافظة كفر الشيخ وأعطوه الكثير من الوعود منها المعاش الشهرى، ومنها تعيينه فى إدارة المشاركة المجتمعية فى ديوان وزارة الصحة بالإضافة إلى هاتف ذكى متخصص لمساعدة المكفوفين على الكتابة ليلائم عمله الجديد، مع توفير منحة تعليمية فى الجامعة الأمريكية لدراسة إدارة الأعمال أو الإعلام، وقد اختار بطلنا الإعلام، كما وعدته المحافظة بشقة بإيجار رمزى.
بسبب التعقيدات البيروقراطية من ناحية، وحدوث بعض التغييرات الوزارية من ناحية أخرى، تباطأ المسئولون فى تنفيذ توجيهات الرئيس، وبدأ ينتاب بطلنا الشعور باليأس مجددا، كما بدأ يشعر بنوبات هلع متعددة، حاول بمساعدة الأصدقاء المخلصين البحث عن تخصص طبى مختلف قد يساعده على العمل فى ظل ظروفه الصحية الجديدة، فقد حاول فتح عيادة خاصة ليساعده فيها طبيب حديث التخرج لكن تعثر المشروع لأسباب لوجستية ومادية، فحاول فى أكثر من تخصص آخر لكن للأسف كان من الصعب لطبيب غير مبصر أن يمارس عمله فيها بطريقة سليمة، فتملك الإحباط مجددا من بطلنا، قبل أن تنفتح فرص جديدة أمامه عندما استضافه الإعلامى الراحل المرحوم وائل الإبراشى فى برنامجه، وفى نفس الوقت وبالجهود الذاتية تعلم د. محمود الكتابة باستخدام برامج مخصصة للمكفوفين على الهواتف الذكية، ونتيجة لعودة الأضواء مجددا لحالة ووضع د. محمود فقد تم أخيرا تنفيذ بعض توجيهات الرئيس، فحصل بطلنا على شقة بإيجار رمزى، كما حصل على معاش شهرى، لكن لم توفر له وزارة الصحة بعد عملا فى الديوان كما تم وعده، ولم يحصل على أى منح تعليمية أو تدريبية لتؤهله للعمل الجديد المنتظر!
• • •
يقول د. محمود إنه يحب وطنه ولا يمكن أبدا أن يكفر بهذا الوطن، كما يقول إنه يريد لابنه أن يكبر وهو محب للوطن، لكن فى نفس الوقت فإن الحصول على المعاش غير كاف وخصوصا وهو يجلس فى المنزل بلا أى عمل! يقول بشكل مؤثر إنه لا يريد أن ينتهى به الأمر فيما أسماه «قهوة الرجال المنسيين» حيث أصبح عاطلا بلا عمل ولا تدريب وبمعاش بسيط يكفل بالكاد احتياجاته، صحيح أنه فقد بصره، لكنه لم يفقد أبدا طاقته ولا شغفه!
يقول بطلنا إنه لا يريد أبدا اختصام المسئولين فى الوزارة أو المحافظة أو فى أى مكان، ولكنه يأمل أن يقوموا فقط بتنفيذ توجيهات رئيس الجمهورية، فلا يمكن لرئيس دولة أمام كل مسئولياته الجسيمة فيما يخص الملفات الداخلية والخارجية للبلاد أن يتابع إجراءات بيروقراطية! فلديه من الحمل ما يكفى، كل ما يأمله طبيبنا العظيم أن يحصل على العمل فى ديوان الوزارة أو مكان آخر يناسب وضعه الصحى وخصوصا وأن نسبة ال ٥٪ المنصوص عليها دستوريا والخاصة بأصحاب الهمم تنطبق عليه، كما يأمل أن يحصل على المنحة التعليمية التى وعده بها المسئولون فى وزارة الصحة، لأنه يأمل فى العمل فى مجال الإعلام والعلاقات العامة.
• • •
هل ما يطلبه بطلنا كثير؟ لا أظن أبدا وأنتظر من المسئولين فى وزارة الصحة أو نوابنا فى مجلسى الشعب والشيوخ أو رجال أعمالنا الوطنيين وما أكثرهم أن يلتفتوا لقصة ومطالب د. محمود سامى قنيبر فهذا أقل واجب نقدمه لبطل ضحى من أجل وطنه!

 

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر