عن ثمن تحرير الشعب والأرض - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الأحد 19 يناير 2025 2:04 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

عن ثمن تحرير الشعب والأرض

نشر فى : السبت 18 يناير 2025 - 7:25 م | آخر تحديث : السبت 18 يناير 2025 - 7:25 م

بعد أن تم الإعلان عن التوصل إلى هدنة بين إسرائيل وحركة حماس بوساطة جهود مضنية من مصر وقطر بالإضافة إلى ضغوط سياسية من الإدارة الأمريكية المنتخبة مؤخرا، خرج أهل غزة فى احتفالات تعبر عن سعادتهم بانتهاء تجبر وتسلط نتنياهو وتياره اليمينى المتطرف الذى استخدم آلة القتل وارتكب كل أشكال جرائم الحرب، ولم يراع فيهم شريعة، ولا قانون، ولا أخلاق، ولا ضمير.
فور الإعلان عن الهدنة – التى حتى وقت كتابة هذه السطور تظل معرضة للانهيار- انطلقت أيضا حسابات المكسب والخسارة لتغزو الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعى فى العالم العربى بين فريق يرى أن الهدنة هى انتصار لحركة حماس، وفريق آخر يرى فى الاحتفاء بالهدنة محاولة لغسيل العقول وتغيير النتيجة التى يرونها معبرة عن الهزيمة المدوية! يسوق كل فريق حججه ويشتبك بشكل عنيف، كل متحيز لوجهة نظره!
• • •
من حيث المبدأ، نفس هذا الجدل بالضبط اندلع بين الشعب الإسرائيلى داخل وخارج حدود الأخيرة مع حجج تكاد تكون متطابقة مع الجدل الذى انطلق فى العالم العربى! بل إن متابعة الأخبار العبرية تظهر أن الأغلبية من المحللين السياسيين من اليمين قبل اليسار يشعرون بأن الهدنة فى النهاية تعبير عن هزيمة إسرائيل ونتنياهو وعجز الأخير عن تحقيق أهداف الحرب التى أعلنها بنفسه.
قطعا احتفى أهل الرهائن، لأن الأمل قد عاد إليهم فى رؤية ذويهم أحياء بعد ١٥ شهرا من الحرب، أو على الأقل سيتمكن بعضهم أخيرا من دفن جثامين من مات منهم بعد تسلمها من حركة حماس، وفقا لليسير المعلن من تفاصيل الهدنة حتى الآن.
حتى نتمكن من تحديد الكاسب والخاسر من الحرب بشكل موضوعى بعيدا عن العواطف، فلابد من ثلاثة أمور؛ الأمر الأول أن ننحى الأيديولوجيات جانبا، أما الثانى هو أن نضع معايير واضحة لتعريف معنى المكسب والخسارة، وأخيرا أن نلقى نظرة سريعة على التاريخ للتعلم من الخبرات السابقة فى تعريف المكاسب والخسائر وخصوصا فى مثل تلك الحروب غير المتكافئة التى يخوض فيها شعب حربا للتحرير والكرامة وتقرير المصير.
• • •
أما من حيث تنحية الأيديولوجيات جانبا، فذلك لأنى أدعى أن معظم المواقف المعلنة بخصوص حسابات المكاسب والخسائر متأثرة بالمواقف الأيديولوجية من حركة حماس، ومن ثم فهى متأثرة بالعواطف وبعيدة عن الموضوعية! بالطبع، لا يمكن لأحد - بما فيهم كاتب هذه السطور - ادعاء الحياد التام، فنحن فى النهاية منتجات لأفكار ومعتقدات وتحيزات تشكل معايير أحكامنا، ولكن المحاولة - حتى مع عدم النجاح التام فى الحياد - مطلوبة إذا أردنا فهم الأحداث وتقديم تقييم موضوعى لها.
لا شك أن حركة حماس لها خلفية وحسابات دينية واضحة ومعلنة، ويكاد أن يكون من المستحيل فصل تلك الخلفية عن السياسة تحليلاً أو واقعا، لكن علينا ألا ننسى أن الحديث عن حسابات المكسب والخسارة لا يتعلق فقط بالحركة، ولكنه يتعلق أيضا بكامل القطاع وسكانه فضلا عن القضية الفلسطينية برمتها، فى مقابل تيار سياسى يحكم إسرائيل يعتمد على الدين فى الأساس لتأسيس شرعيته القومية وشرعية دولته!
• • •
أما من حيث حسابات المكسب والخسارة، فعن أى معيار نتحدث؟ إذا كان المعيار هو محاسبة الأطراف بما أعلنوه من أهداف فى بداية الحرب، فلا فازت حماس ولا انتصر نتنياهو! الأهداف المعلنة للحركة بعد تنفيذ هجمات ٧ أكتوبر تمثلت فى تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، ولم تفشل الحركة فقط لأنها عجزت عن التحرير التام لفلسطين، ولكن فشلها تمثل فى أنها وافقت على اتفاق هدنة بعد أن جلبت الدمار لغزة، وهو الدمار الذى طال الحجر والبشر، كما طال قيادتها وأسلحتها وقدرتها على المناورة السياسية وتقبلها فى الدبلوماسية الدولية! لم يتحرر أى سنتيمتر من الأراضى التى تم احتلالها فى ١٩٤٨ ولا تلك التى تم ضمها فى ١٩٦٧، بل ستبقى غزة نفسها بعد الهدنة محاصرة ومدمرة إلى حين، ناهينا عما طال الضفة!
لكن هل يعنى هذا أن نتنياهو انتصر؟ الحقيقة، أن أهداف الأخير المتمثلة فى تدمير حركة حماس وإنهاء وجودها فى القطاع، فضلا عن تحرير وإعادة كل الرهائن أحياء لم يتحقق! فها هو يوافق على الهدنة ومازالت الحركة - رغم الضربات التى طالتها - موجودة عسكريا فى غزة ومعنويا فى الضفة، وسياسيا فى القاهرة والدوحة، وإعلاميا فى واشنطن ولندن! أما عن الرهائن، فرغم استعادة بعضهم أحياء، إلا أن عددا كبيرا منهم تأكد مقتله، والتقديرات غير النهائية تقول بأن هذا العدد المقتول بالفعل كبير ويتخطى تقديرات نتنياهو والجيش الإسرائيلى لدرجة أن تقريرا لصحيفة يديعوت أحرونوت نشر يوم الخميس الماضى يقدر أن الأحياء من الرهائن يتراوح عددهم بين ٢٣ إلى ٢٥ فقط!
أما إذا كان المعيار هو تحديد وضع «القضية الفلسطينية» فى مقابل وضع «إسرائيل» قبل وبعد ٧ أكتوبر، فلا شك أن نتنياهو مُنى بأكبر هزيمة فى تاريخه السياسى وربما فى تاريخ اليمين الإسرائيلى، بل وحتى أقول فى تاريخ أى سياسى إسرائيلى منذ ديفيد بن جورين وحتى اللحظة! نتنياهو لم يكن فقط الرجل الأقوى فى تاريخ إسرائيل قبل ٧ أكتوبر، بل وكان أيضا الأكثر وضوحا وصراحة ليس فقط فى تحديه للقوانين الدولية، ورفضه حق الشعب الفلسطينى فى إنشاء دولة (حتى لو كانت منزوعة السلاح)، بل إنه وتياره يرفضون الوجود الفلسطينى من الأصل! فهم لا يعتبرون الفلسطينيون والفلسطينيات بشرا لهم حقوق وكرامة، بل يرونهم مجموعة من «الحيوانات البشرية» كما قال وزير دفاعه السابق، يستحقون «قنبلة نووية لإبادتهم» كما قال وصرح وزير تراثه الحالى!
نتنياهو الذى كاد أن يحقق مراده ويدشن أسطورته للأبد فى التاريخ الإسرائيلى بعد توقيع الاتفاقات الإبراهيمية والتى كان يهدف منها ببساطة إلى تخطى أمر إنشاء الدولة الفلسطينية ودفعها لطى نسيان القانون والمنظمات الدولية والضمير العالمى فضلا عن العربى، قد عاد لنقطة الصفر! فقد عادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة السياسية والدبلوماسية فى المسرح السياسى الدولى، وعاد الحديث عن حق الشعب الفلسطينى فى الحصول على دولة! ليس هذا فقط، بل إن إسرائيل قد فقدت سمعتها التى لطالما تغنت بها أمام العالم الغربى باعتبارها دولة متحضرة ديمقراطية تدافع عن القيم الغربية أمام العالم العربى الهمجى الإرهابى، فقد عرف العالم بعد ٧ أكتوبر من يستحق بالفعل النعت بالإرهاب، بل وأصبح نتنياهو ملاحقا دوليا من قبل القانون الدولى كمجرم حرب وهو أمر لم يكن ليتوقعه أكثر المتشائمين لمستقبل نتنياهو وإسرائيل قبل السابع من أكتوبر!
خسائر نتنياهو طالت المجتمع الإسرائيلى، سواء لفقدانه السمعة والتعاطف الدوليين وخصوصا بين الشباب الغربى، أو بسبب فقدانه الثقة بنفسه وبقياداته، مما دفع الآلاف لمغادرة إسرائيل بشكل نهائى مع وجود آخرين مستعدين ومتأهبين للهجرة فى انتظار الفرصة! هذه الخسائر دفعت حتى أعتى المدافعين عن إسرائيل فى الخارج للضغط على نتنياهو لإبرام الصفقة وإنهاء الحرب لحفظ ماء وجهه، وماء وجوههم! أما عن أهم مؤسسات إسرائيل (الجيش والمخابرات) فالخسائر فيهما سواء على المستوى البشرى أو المؤسسى أو المعلوماتى أو حتى المعنوى أعقد من أن يتم وضع تقدير لها وربما يحتاج الأمر إلى شهور، بل وسنوات حتى تستطيع إسرائيل تقديره!
أما عن المعايير البشرية والإنسانية للمكاسب والخسائر، فلا شك أن هذه واحدة من أكثر المراحل دموية فى تاريخ الشعب الفلسطينى منذ نكبة عام ١٩٤٨، فهذه أكثر معركة خسر فيها الشعب الفلسطينى بشريا فى التاريخ. وفقا للإحصاء الرسمى الصادر عن الجهاز المركزى للإحصاء الفلسطينى فى مايو الماضى، فمنذ عام ١٩٤٨، قُتل نحو ١٣٤ ألف فلسطينى وعربى، ولما كانت أعداد الذين استشهدوا منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ حوالى ٤٦ ألف فلسطينى وفلسطينية من غزة والضفة، فنكون بذلك أمام إحصاء صادم يقول إن الخسائر البشرية الفلسطينية خلال ١٥ شهرا فقط بلغت أكثر من نصف الخسائر البشرية خلال نحو ٧٧ عاما! فخلال العقود الثمانية الأخيرة، استشهد نحو ٩٠ ألفا، ثم فى أكثر قليلا من عام واحد فقد استشهد أكثر من ٤٥ ألفا آخرين وهى بكل تأكيد خسارة فادحة لا ينفع معها عزاء ولا تحليل ولا تنظير، فالنفس البشرية لا تعوض، ولم تسأل حماس قطعا الفلسطينيين فى غزة على الأقل إن كانوا مستعدين لدفع هذه التضحية ومنهم الأطفال والعجائز والنساء والشباب الذين لم يكن لهم أى قرار سوى تحمل فواتير حماس عندما نفذت هذه الهجمات!
• • •
هنا نأتى للأمر الثالث والأخير، هل هناك سابقة فى التاريخ لقيام قيادة سياسية أو حربية فى استئذان شعبها قبل القيام بهجمات ضد المستعمر؟ فى الدول الديمقراطية، لا تذهب الجيوش للحرب سوى بعد موافقة البرلمان، ومن ثم فبطريقة أو بأخرى يكون هناك اعتبار لإرادة الشعوب فى حسابات الحرب. لكن هل لقطاع محاصر دوليا وإقليميا لا يملك مطارا، ولا ميناء، ولا حدودا مصونة، ولا سيادة ولا مصيرا ولا قومية معترفا بها دوليا، ولا يحصل حتى على الغذاء والدواء والمياه والكهرباء إلا بإذن السجان الإسرائيلى أن يقوم باستفتاء على الحرب؟!
هل نقبل أن يدفع البشر دماءهم للدفاع عن الأرض، حتى لو لم يكن الأمر باختيارهم؟ هذا السؤال بلا شك يشكل معضلة أخلاقية وفلسفية للمتأملين، لكن فى التاريخ كانت الإجابة دائما بنعم، فلطالما ضحى البشر بأنفسهم من أجل العقائد والأفكار والأرض والشرف والكرامة، فلماذا نستثنى الشعب الفلسطينى من قانون التاريخ والبشرية؟

 

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر