لماذا تمنعون أهل غزة من حقهم فى الهجرة الطوعية؟ ألا يخول القانون الدولى للمدنيين الحق فى الهروب من أماكن المعارك الحربية؟ ألا تجبر القواعد الدولية دول الجوار على قبول اللاجئين وتوفير المأوى والسكن لهم؟ لماذا تتعنت مصر والأردن فى قبول اللاجئين الفلسطينيين، بينما قبلتا من قبل استقبال اللاجئين من دول الجوار (سوريا، العراق، ليبيا، السودان)؟
كانت هذه هى الأسئلة التى طرحها أحدهم فى حوار معى حول ردود الفعل المصرية والأردنية الرافضة لخطة إعادة التوطين التى طرحها الرئيس الأمريكى ترامب الأسبوع الماضى، والتى أدت إلى موجة من ردود الفعل العالمية الغاضبة التى رفضت المقترح لكونه أحد سياسات تنفيذ التطهير العرقى لسكان غزة!
طرح المتحدث أربعة أحداث بعضها تاريخى وبعضها معاصر لتعضيد وجهة نظره فى أن فتح الباب أمام أهل غزة للهجرة الطوعية من ناحية واستخدام عنصرى الحسم والقوة فى العلاقات الدولية من ناحية أخرى هى أمور اعتيادية فى تاريخ السياسة الدولية ومن ثم فإن طرح خطة إعادة توطين سكان غزة ليس استثناء تاريخيا، ولكنه رؤية دولة عظمى لإعادة تشكيل المنطقة ونزع فتيل الأزمات فيها! كانت هذه الأحداث التاريخية المطروحة من جانبه هى ما يلى:
أولا: فى عام ١٩١٦ ونتيجة لخطط فرنسا وبريطانيا فى إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط لملء الفراغ الذى كانت على وشك أن تتركه الدولة العثمانية فى المنطقة، فقد قامتا بتوقيع اتفاقية سرية فى باريس عرفت لاحقا باسم «سايكس- بيكو»، وبناء على هذه الاتفاقية ظهرت خريطة جديدة للشرق الأوسط بما فيها من ترسيم جديد للحدود وظهور دول جديدة لم يكن لها وجود من قبل! فإذا كانت بريطانيا وفرنسا تمكنتا من إعادة رسم خريطة المنطقة بحكم تمتعهما بالنفوذ الدولى فى هذا العصر، فمن المنطقى أن تشكل الولايات المتحدة المنطقة فى ضوء التطورات الجارية وفقا لرؤيتها!
ثانيا: إن ظهور دولة إسرائيل فى ١٩٤٨ كان – ضمن أسباب أخرى - نتيجة للهجرة القسرية لليهود هروبا من فظائع الهولوكوست فى أوروبا، كما هاجر عدد آخر من يهود الدول العربية (مصر، العراق، سوريا، اليمن، تونس، المغرب) مضطرين بسبب تصاعد المد القومى العروبى وتعرضهم للاضطهاد. ومن ثم فإن تاريخ دولة إسرائيل هو ببساطة تأكيد على حق اللاجئين فى مغادرة دولهم الأصلية بحثا عن أوطان آمنة!
ثالثا: إن التاريخ المعاصر للحروب يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن فى كل أماكن القتال والنزاعات المسلحة منذ حرب يوغوسلافيا والحرب الأهلية الرواندية فى التسعينيات، وصولا إلى الحروب الأهلية فى سوريا وليبيا والسودان مرورا بالحرب الروسية - الأوكرانية، فإن فتح الباب للجوء الإنسانى هو واجب على كل دول الجوار. فمثلا – وفقا لمحدثى - هناك ٦.٥ مليون لاجئ أوكرانى فى العالم بسبب الحرب الروسية، فلماذا لا يأخذ سكان غزة نفس هذا الحق ويكون لهم حق مغادرة القطاع؟
رابعا: إن حديث الرئيس ترامب الأخير لم يشر إلى استخدام القوة، كما أنه لا يقطع بضياع حق اللاجئين فى العودة إلى غزة بعد القضاء على حماس وتدمير كل الأنفاق، ومن ثم فإن المطروح على الطاولة هو فتح الباب لأهل غزة للمغادرة بشكل طوعى، وبالضرورة فإنه لو توافر لأهل غزة فرصة الخروج من القطاع، فإنهم سيغادرون برغبتهم، فمن الطبيعى ألا يفضلوا البقاء فى مكان مدمر وغير صالح للعيش الآدمى!
• • •
وهكذا فإن محدثى طرح حججه التاريخية والمعاصرة وغلفها بمنظور إنسانى-قانونى، وهو حق اللاجئين فى البحث عن موطن آمن، مستنكرا قيام مصر والأردن بعرقلة ذلك! ولأن مثل هذه الحجج الإنسانية - القانونية تكررت فى أكثر من محفل أكاديمى، وإعلامى ودبلوماسى، خلال الأيام القليلة الماضية فأوجز ردودى على محدثى للقراء الأعزاء على النحو التالى:
أولا: إن الإشارة إلى اتفاقية سايكس- بيكو كنقطة لانطلاق الحوار هى من حيث المبدأ تعبير عن حقيقة الرؤية الإسرائيلية واليمينية الأمريكية التى تؤمن بمعادلة القوة كوسيلة لتسوية النزاعات الدولية نحو إذعان الأطراف الأضعف، وهو الأمر الذى يعنى أن اللجوء لاحقا للمدخل الحقوقى والإنسانى فى الحديث عن حق سكان غزة هو مجرد خدعة لتسويق خطة ماكرة قديمة قدم إنشاء الدولة العبرية! ثم إن اتفاقية سايكس بيكو كانت فى عصر لا وجود فيه لقواعد القانون الدولى، عصر قَبِل بالاستعمار وبالاتفاقيات السرية وهو ما دفع العالم ثمنه فى قيام الحرب العالمية الأولى، ثم الثانية! فمعادلة القوة غير المستندة لأى قواعد قانونية - ناهينا عن الأخلاقية - تؤدى إلى الانفجارات، وما كان السابع من أكتوبر إلا تعبيرا عن الانفجار جراء سنوات من الغطرسة الإسرائيلية فى مواجهة الضعف العربى والفلسطينى. وقبل أى شىء، فإن اتفاقية سايكس- بيكو، كانت فى عصر لم يتأصل فيه مفهوم الدولة الوطنية/القومية فى النفوس والعقول، فكانت معظم الهويات إما محلية/قبلية أو دينية وهو أمر مغاير لوقتنا الحالى حيث تتأصل الهويات القومية، والشعب الفلسطينى ليس استثناء من هذا التاريخ!
ثانيا: صحيح أن جزءا من تاريخ قيام الدولة العبرية مرتبط بفظائع الهولوكوست، وصحيح أن عددا من اليهود العرب تعرض لظلم واضطهاد فى الدول العربية المذكورة، لكن هذه نصف الحقيقة فقط! أما الحقيقة الكاملة فتقول إن فكرة إقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين له مرجعية دينية لا لبس فيها، وكما كان هناك من اليهود من هاجر قسرا، كان هناك الملايين الذين هاجروا طوعا إلى فلسطين التاريخية قبل ١٩٤٨، ثم إلى الدولة الجديدة بعد ١٩٤٨! وحتى هؤلاء الذين هاجروا قسرا، فإنهم هاجروا من وطن مضطهدين فيه، إلى وطن قومى/دينى يعدهم بحياة أفضل! أما العرض الخاص بغزة فلا يمكن مقارنته بأى حال من الأحوال بتجربة الهجرة/اللجوء اليهودى إلى إسرائيل، فنحن هنا أمام شعب يعيش فى وطن يحبه ويحب أرضه ومستعدون للتضحية من أجله أمام مستعمر يحتل أراضيهم ويفرض عليهم أوضاعا ظالمة، ثم يقصفهم ويسوى ببيوتهم الأرض، ثم يبحث لهم عن مأوى بحجة الحقوق الدولية! فهل توجد بجاحة أكبر من هذا؟!
ثالثا: إن معظم التاريخ المعاصر المتعلق بقضايا اللاجئين - باستثناءات تؤكد القاعدة ولا تنفيها - متعلق بالحروب الأهلية، حيث يحدث اقتتال داخلى يؤدى إلى مأساة إنسانية تدفع السكان المدنيين إلى المغادرة بحثا عن الأمان! لكننا هنا أمام قضية مختلفة تماما، هى قضية مستعمر ومقاوم، هذه ليست حربا أهلية، ولا حتى حربا بين دولتين، لكنها قضية متعلقة بالاستعمار ومن ثم فإن قواعد القانون الدولى التى يجب مناقشتها هنا ليست تلك المتعلقة بالحق فى اللجوء، ولكنها متعلقة بحق تقرير المصير وبالمسئوليات القانونية التى تقع على سلطة المحتل الإسرائيلى»، فهذا هو النقاش اللازم لطالما استدعينا قواعد القانون الدولى، وغير ذلك محاولات بائسة للهروب من محاسبة المحتل والدفع بالمسئولية على أطراف أخرى!
رابعا: إن الحديث عن «الهجرة الطوعية» هو مثال آخر لمحاولات المراوغة الإسرائيلية للتنصل من المسئولية! السردية الإسرائيلية المراوغة تقول بأن للشعب الفلسطينى حقوقا وحريات وعلى مصر والأردن الوفاء بها باعتبارهما دول الجوار! لكن السردية الحقيقية تقول بأن للشعب الفلسطينى حقوقا وحريات مكفولة له بواسطة قواعد القانون الدولى، وكلها بلا استثناء تقع على عاتق المحتل لا على دول الجوار لهذا المحتل! وإلا كانت هذه دعوة لدول العالم للهجوم على غيرها من الدول الأضعف وقصف وقتل المدنيين والمدنيات فيها، ثم سؤال من تبقى منهم إن كان يرغب بالبقاء أو الرحيل! وقبل هذا وذاك، فعن أى وعود فى العودة نتحدث؟ ألا يمكن إعادة تعمير القطاع بينما يبقى فيه أهله؟ وما هى ضمانات عودة اللاجئين واللاجئات إلى القطاع مرة أخرى؟ ومنذ متى سمحت إسرائيل بعودة أى لاجئ/لاجئة إلى أرضه؟ هل حدث ذلك ولو للاجئ فلسطينى واحد طوال العقود الثمانية الأخيرة؟
• • •
يبدو أن بعض الإسرائيليين ومعهم أنصار التيار اليمينى الأمريكى قد نسى أن أهل عدد كبير من سكان غزة هم فى الأصل ليسوا من أهل غزة، ولكنهم بالفعل لاجئون فيها بعد أن تم تهجيرهم قسريا من قراهم ومدنهم باستخدام كل وسائل العنف والإرهاب التى عرفها التاريخ الحديث! والأمر نفسه ينطبق على الضفة الغربية.
إذن، فإسرائيل التى هجّرت الشعب الفلسطينى إلى غزة والضفة قبل نحو ثمانية عقود، تريد تهجيرهم للمرة الثانية، خارج هذه الأراضى، ثم تعدهم بالعودة! من هو ذلك الغبى الذى قد يبتلع هذا الطعم؟ وأين هى تلك الإنسانية التى تدعيها الدولة الإسرائيلية عندما تتحدث عن حق اللجوء!