توقفت الحرب الإسرائيلية على غزة، وقبل ذلك على لبنان، بموجب اتفاقيات وقف إطلاق النار، لكن من دون أن تتوقف بالطبع الخروقات الإسرائيلية فيهما، سواء المباشرة والعلنية أم المستترة أو الخفية. وعلى الرغم مما خلفته هذه الحرب/الإبادة من دمار وخراب فى البنى التحتية، ومن شهداء ومعوقين وحالات اجتماعية صعبة طاولت الأسر، ثمة سؤال محورى ومهم فرض نفسه علينا قبل هذه الحرب، وبات أكثر إلحاحًا خلالها؛ إنه السؤال حول المصير الذى تنقاد إليه الإنسانية اليوم.
إن عدم تكافؤ القوتين العسكرية والتكنولوجية فى هذه الحرب الشرسة والعدوانية التى شنتها إسرائيل بدفع من القوة الأمريكية والأوروبية ودعمها، وما شهدناه من قتل للمدنيين مخالف لكل الأعراف والقوانين الإنسانية، هو الذى يحملنا على البحث أو التأمل مجددًا فى الإنسان الجديد الذى يرسمه لنا المستقبل فى ظل عدم ضبط مسارات التطور العلمى والتكنولوجى وتقاطعه وتشابكه مع القطبية الدولية الواحدة وقوانين التنافس الاقتصادى والمالى.
ففى هذه الحرب الضروس تكشفت الأقنعة، وأزيلت الحجب. كل الوعود التى قطعتها العولمة حول عالم أوحد يسوده الوئام والتجانس وتتحقق فيه رفاهية الشعوب، أو كل كلام عن حقوق الإنسان، باتًا كلامًا خاليًا من المعنى. حقيقة واحدة تبدت واضحة وضوح الشمس، وهى أن استعمارًا بلباس جديد بدأ يرسم مسار العالم ودوله التى لا توازى قوتها نظيرتها لدى المستعمر. لكأن أى حقائق أو مسارات أو أنماط عيش واستهلاك، لا تفرضها هذه القوى عبر مؤسساتها الأكاديمية والبحثية والتربوية والإعلامية وامتداداتها فى العالم، باتت ممنوعة. فالأفراد، كما المجتمعات، باتوا يتشكلون ويؤطرون وفق أنموذج ثقافى يخدم السوق. ولن نتناول فى هذه المقالة زمن الاستهلاك الحالى ومآلاته، أو زمن «السيولة» وأشكاله فى دعم هذا الاتجاه الشرس الذى تنحو نحوه الإنسانية، ولن نتناول سوء استخدام منجزات الثورة الصناعية الرابعة، لا سيما الذكاء الاصطناعى فى تدعيم الشر من طرف مالكى القوة التكنولوجية، والمنظومة الأخلاقية الأداتية التى تشرعن الكذب والتضليل، وتستند إليها تلك القوى كغطاء لاستعمارها وحروبها وتعدياتها. جل ما نبحث فيه ونتساءل حوله هنا، هو أى إنسان جديد وأى مجتمعات جديدة هى تلك التى قد يقود إليهما التمركز الرأسمالى المتوحش حول عالم السوق؟
• • •
أخشى ما نخشاه، هو أن يكون إنسان اليوم، وعالم اليوم، على تلك الصورة التى صاغتها روايات الخيال العلمى، وأتوقف هنا عند رواية «عالم جديد شجاع» (1932) للكاتب الإنجليزى ألدوس هكسلى. تلك الرواية التى استعار فيها مؤلفها مجاز العلم والتقدم العلمى والتكنولوجى للكشف عن مآلات سوء استخدامهما على البشرية جمعاء. ومن بين تلك الاختراعات أو المنجزات العلمية التى توقف عندها ألدوس هكسلى، تقنية الإنتاج الضخم للأحياء، أى «تفريخ الأجنة»، بوصفه، بحسب القيمين على هذا الاختراع، أعظم الوسائل لتحقيق الاستقرار الاجتماعى.
أما عن مآثر هذا الإنجاز العلمى، أى إنتاج الأجنة، وكيفية إفضائه إلى الاستقرار الاجتماعى، فقد أوكل التعريف به والكلام عليه إلى مدير هذا المشروع العلمى الضخم الذى رأى أنه سيسمح بتحديد أقدار الأجنة وتكييفهم. فإنتاجهم، بحسب جينات معينة يتم اصطفاؤها واختيارها، سيحررهم من تربية الأهل ومن تنشئتهم؛ بحيث تضْطلع مراكز الدولة بهذه المهمة. وسيكون لهؤلاء الأطفال المنتجين كره غريزى للكتب والورود و«يكونون آمنين بمعزل عن الكتب والنباتات طيلة عمرهم» (ص33)، ما دام أن الطبيعة مجانية، وأن حب الطبيعة لا يسهم فى تشغيل المصانع (ص 34)، وسيتم تعليمهم فى أثناء النوم حتى يصبح عقل الطفل فى النهاية مكونًا من إيعازات صنيعة العلم والدولة، فيحكم هذا العقل ويقرر.
التكنولوجيا وكثافة الإنتاج الموجه إلى السوق فى «الزمن الفوردى» اللذان عبر تخييل ألدوس هكسلى عن تداعياتهما السيئة على الإنسان والمجتمع، لا يزالان إلى الآن، لا سيما فى زمن الثورة الصناعية الرابعة، مصدر خوفنا وتوجساتنا، ما دام أن السوق كانت ولا تزال، سواء فى زمن التصنيع أم فى الزمن الرقمى الحالى، لولب الرأسمالية؛ وما دام أن حتمية قوانين التنافس فى هذه السوق، هى التى كانت، ولا تزال، تتحكم بمسار العالم وعيش الإنسان فيه. فهنرى فورد الذى توسل تشكيل القوة العاملة والإدارة العلمية، بما يتناسب مع المجتمع العقلانى الحداثى، تلبية لحاجات السوق (مع حرْص فلسفته الاقتصادية على القوة العاملة، لجهة الحقوق، لا سيما الأجور، وجنى مزيد من الأرباح للعمال) غلبتْه قوانين التنافس.
• • •
نعود إلى موضوعنا وسؤالنا الذى فرضته مجازر إسرائيل وشركاؤها الغربيون بحق الفلسطينيين واللبنانيين فى ظل صمت مطبق للقوى الغربية، تخللته فى بعض الأحيان تصريحات رسمية مراوغة وكاذبة من هنا وهناك، تساوى بين الضحية والجلاد أو بين المحتل وصاحب الأرض. إنه موضوع لا يقتصر على ما حصل، بل يتعداه إلى ما سوف يحصل فى حال استمر «الشر» هو الطاغى فى تحريك العالم. إنه «الشر» الذى خصص له «فيلسوف السيولة»، الألمانى زيجمونت باومان مع زميله الفيلسوف الروسى ليونيداس دونسكيس، كتابًا حواريًا كاملًا، بوصفه - أى هذا الشر - مترافقًا ومتزامنًا مع «حداثة سائلة» و«حياة سائلة» ولديهما اقتصاد جشع، هو فيهما بمثابة القدر؛ حيث إن «الحياة السائلة» تنهض بالضرورة من مجتمع حديث سائل. وهى حياة تتهددها المخاطر، ويكون فيها المرء فى حالة من «اللا يقين الدائم»، ومن الخوف من أن تأخذه هذه الحياة على حين غرة، ومن الفشل فى اللحاق بالمستجدات المتسارعة، ومن التخلف عن ركب السائرين، ومن الاحتفاظ بأغراض مهجورة، ومن فقدان اللحظة التى تدعو إلى تحول فى اتجاه السير قبل عبور نقطة اللاعودة. وفى رحابها تغدو البدائل ممنوعة، وتبدو قصص النجاح الفردية هى القصص السائدة، وتعكس خصْخصة اليوتوبيا ونهاية الحديث عن المجتمع العادل والصالح.. وذلك فى ظل الإيمان القاطع بالحتمية الاجتماعية والقدرية المتمركزة حول السوق (الشر السائل. العيش مع اللابديل، ص 27). ويضيف فيلسوف السيولة: «غياب الأحلام والبدائل واليوتوبيات هو تحديدًا ما أعتبره جانبًا مهمًا من سيولة الشر (ص 28)، لأن أبطال الشر يسعون إلى تجريد الإنسانية من أحلامها ومشروعاتها البديلة وقوى الرفض والممانعة (ص 28).
سؤالنا إذا ينهض من معايشتنا لمجتمع عالمى يسوده الاستبداد والظلم، ويسير نحو الاتجاه الخاطئ نتيجة التوسع المادى والاقتصادى وسيطرة المصالح الذاتية المهددة للروابط الاجتماعية والأهداف الإنسانية. وهى كلها مظاهر مضادة لفكر «الأنوار» وفلسفته. وهو مسار يحمل فى طياته بذور انهيار لا يقتصر على المتحكمين به، بل يطاول الحضارة الإنسانية بأسرها. المؤرخ والناقد الاجتماعى الأمريكى لويس ممفورد، وفى سياق دراسته تطور المدينة لدى الرومان، وصولًا إلى انهيار حضارة القرون الوسطى، سأل منذ ستينيات القرن الماضى، وتحديدا فى الجزء الأول من كتابه «المدينة على مر العصور: أصلها وتطورها ومستقبلها»، العائد فى طبعته الإنجليزية الأولى إلى عام 1961: «هل سيكرس الإنسان نفسه لتنمية أنبل صفاته الإنسانية، أو أنه سيترك نفسه تحت رحمة القوى التى أطلقها بنفسه، وأصبحت الآن تكاد تعمل من تلقاء نفسها، ويخلى مكانه لبديله المجرد من الصفات الإنسانية «إنسان ما بعد التاريخ؟» (ص5)، مشددًا على أن الخيار الثانى سيؤدى إلى «تزايد فقد الإحساس، وتناقص العاطفة والجرأة الخلاقة، وأخيرًا فقد الوعى والشعور؟» (المركز القومى للترجمة، 2016، ص 5).
سؤالنا الفورى إذا: هل نستسلم لهذا القدر؟ جوابنا بالقطع لا. ولا بد من العمل على مستويات متعددة، اقتصادية وسياسية وتنموية وغيرها، لأجل امتلاك الحق فى العيش، أفرادًا وجماعات ودولًا، بكرامة. فعلى المستوى الثقافى أو الفكرى مثلًا، وإذا كان هناك من كلام على ضرورة البحث فى كونية التواصل والتعايش، فإن هذا الكلام لا بد أن ينهض على أسس نقدية تدافع عن قيم العدالة والحرية، وأن ترسم أيضًا طرق التغيير.
رفيف رضا صيداوى
مؤسسة الفكر العربي
النص الأصلى:
https://tinyurl.com/2jzbycfr