فى البيئة الإقليمية والدولية المحيطة بها اليوم، تواجه الدول العربية العديد من الأخطار الأمنية التى لا تستطيع التعامل معها بغير الأدوات الدبلوماسية والمقترحات التفاوضية والحلول السلمية.
ها هى إسرائيل تعود إلى التصعيد العسكرى فى غزة، وتمنع دخول المساعدات الإنسانية والمعدات اللازمة لإعادة الإعمار، وتروج لخطط إجرامية للتهجير الجماعى لأكثر من مليونى فلسطينى وفلسطينية فى ظل خليط من التشجيع واللامبالاة من قبل الإدارة الأمريكية الحالية. أما العرب فيتحركون، انطلاقًا من دور مصرى قيادى، لتعبئة الدعم الإقليمى والدولى لخطة إعادة إعمار القطاع التى اعتمدتها القمة العربية الطارئة قبل أيام قليلة. ويتحركون، بقيادة مصرية-قطرية، لتجديد مفاوضات وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس ولحسم كيفية إدارة غزة دون حماس ومسألة تحييد سلاحها. وينبهون، فرديًا وجماعيًا، المجتمع الدولى إلى وضعية العنف المتصاعد فى الضفة الغربية والأخطار الحاضرة للتهجير الجماعى للفلسطينيين من هناك أيضًا.
وبينما تلوح مصر والأردن بالتداعيات السلبية للسياسات والإجراءات الحالية لحكومة بنيامين نتنياهو فى الأراضى الفلسطينية المحتلة على معاهدات السلام بين البلدين وبين إسرائيل، وتكرران الرفض القاطع لكل خطط التهجير، تشدد السعودية على رفضها التطبيع مع إسرائيل قبل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعلى اصطفافها مع الإجماع الفلسطينى والعربى فى هذا الصدد.
تدرك القاهرة وعمان والرياض كون مواقفها هذه قد لا تسفر عن تغيير فى السياسات العنيفة لتل أبيب وقد ترتب ضغوطا من قبل واشنطن بغية دفعهم إما إلى التخلى عن معارضة التهجير فى حالتى مصر والأردن أو فيما خص السعودية إلى قبول التطبيع دون تفعيل لمبدأ الأرض والدولة الفلسطينية مقابل السلام مع إسرائيل.
غير أن مصر والأردن، وهما تواجهان بسبب غرور إسرائيل والعنف الصادر منها ضد الفلسطينيين والتواطؤ الأمريكى تهديدات كبرى ترد على سيادتهما وأمنهما القومى وعلى التزامهما بدعم الحقوق الفلسطينية، ليستا فى وارد لا الصمت ولا الاستسلام ولا الامتناع عن توظيف كافة أدوات قوتهما للحيلولة دون جرائم التهجير. أما إقليميًا، فإن الدولتين لا تملكان ومعهما السعودية سوى المبادرات الدبلوماسية والمقترحات التفاوضية للحيلولة دون تصفية القضية الفلسطينية وتجديد طرح السلام على الشعب الإسرائيلى الذى تذهب حكومته اليمينية المتطرفة بفرصه فى الأمن والاستقرار والرخاء طويل المدى.
•••
كذلك يواجه العرب أخطارًا أمنية مركبة فى لبنان وسوريا حيث تواصل إسرائيل ضرباتها العسكرية، إن للمزيد من الضغط على حزب الله فى لبنان أو لصناعة وضعية مجتمعية وسياسية فى سوريا ترتب تفتيت وحدتها الإقليمية. والشاهد أن النتيجة فى الدولتين العربيتين هى تصاعد العنف وغياب الاستقرار، وكلاهما يضران بفرص بناء التوافق الداخلى الضرورى للإصلاح السياسى والمؤسسى، لكى يتجاوز لبنان الصراعات الطائفية واستتباع القرار الوطنى لأطراف خارجية، لكى تعيد سوريا بناء دولة وهوية جامعة وعيش مشترك سلمى بين مكوناتها العديدة بعد عقود الديكتاتورية وسنوات الحرب الأهلية.
هنا أيضًا ليس فى جعبة العرب، ولا فى إراداتهم الفردية أو رغبتهم الجماعية، غير العمل الدبلوماسى والسلمى لتثبيت وقف النار فى لبنان وفيما خص سوريا مطالبة المجتمع الدولى والقوى الكبرى، والأخيرة تتجاهل الاعتداءات المتكررة على سوريا والضم الممنهج للأراضى المتاخمة لمرتفعات الجولان المحتلة وتمزيق المناطق الجنوبية بادعاء حماية الأقلية الدرزية، بالتحرك لردع إسرائيل.
•••
تمثل السياسة الإيرانية، باعتمادها على الميليشيات الشيعية المسلحة وتوظيفها الراهن لنفوذها فى اليمن والعراق لخدمة أهدافها الإقليمية فى سياق صراعها مع إسرائيل والولايات المتحدة وتداعيات توظيفها الماضى لنفوذها فى لبنان وسوريا، تهديدًا مباشرًا للمصالح العربية فى الأمن والاستقرار. فلا يمكن فهم تمدد الحرب فى غزة إلى ساحات أخرى بالإشارة الأحادية إلى السياسات والإجراءات الإسرائيلية وإغفال دور إيران فى دفع حزب الله اللبنانى وميليشيات الحشد فى العراق وجماعة الحوثى فى اليمن إلى الفعل العسكرى على نحو أغرق الشرق الأوسط فى حرب استنزاف لم تتوقف إلى اليوم.
كذلك ليست المصالح العربية بمعزل عن التأثر سلبًا من جراء العمليات العسكرية للحوثيين فى البحر الأحمر، والتى تقوض أمن الملاحة فى هذا الممر المائى شديد الأهمية لمصر والسودان والسعودية والأردن، وتحد بشدة أيضًا من حركة التجارة العالمية عبر قناة السويس وترتب من ثم تراجعًا كارثيًا فى الإيرادات المصرية من القناة.
كما أن وضعية التوتر العام التى يستدعيها الصراع بين إيران وبين إسرائيل والولايات المتحدة والقضايا الكثيرة ذات الصلة بالبرنامج النووى الإيرانى والعقوبات الأمريكية المفروضة بسببه والمرتبطة أيضا بالسياسات الإقليمية لإيران وبرنامجها الصاروخى ودعمها للميليشيات المسلحة، هذه الوضعية تخصم من فرص الأمن والاستقرار فى الخليج وتضغط على الدول العربية أعضاء مجلس التعاون الخليجى لرفع معدلات إنفاقها على السلاح وللحصول على ضمانات أمنية من قوى خارجية لها مصالحها ومطالبها.
فى مواجهة السياسة الإيرانية، يتحرك العرب فى الخليج، ومعهم مصر والأردن، سلميًا وجماعيًا لاحتواء التهديدات الواردة على الأمن الإقليمى، ونزع فتيل الصراعات المشتعلة الآن فى اليمن على خلفية صواريخ ومسيرات الحوثيين المطلقة باتجاه إسرائيل والعمليات العسكرية الأمريكية ضدهم، والحد من احتمالية اشتعال الساحات الأخرى فى لبنان وسوريا والعراق.
•••
غير أن العرب، وعلى ضرورة مواصلتهم الابتعاد عن التورط فى الحروب والصراعات الراهنة ومركزية دعوتهم إلى المبادرات الدبلوماسية والمقترحات التفاوضية ومساعيهم المستمرة لكبح جماح العنف الإسرائيلى والسياسة الإيرانية واستعادة الأمن فى الشرق الأوسط، يحتاجون إلى صياغة آليات وأدوات وطرق فعل جماعية لا تتوافر لهم اليوم. كذلك يتعين على الدول العربية الربط بين جهودها لإنهاء الحروب والحرائق المشتعلة فى فلسطين وعموم المشرق وفى اليمن وبين تطوير رؤية متكاملة لشرق أوسط يضمن تقرير المصير للشعب الفلسطينى، ويخلو من العنف ومن سباقات التسلح وأسلحة الدمار الشامل ويعتمد الآليات السلمية لتسوية الصراعات بين دوله دون تدخلات خارجية والعمل على بناء توافق إقليمى وعالمى واسع مساند لمثل هذه الرؤية وداعم لها.
من هنا تأتى، وكما طالبت بصور مختلفة فى هذه المساحة طوال الأسابيع الماضية وطرحت فى دراسة مطولة نشرتها وقفية كارنيجى للسلام الدولى (هنا الرابط) أهمية تفكير العرب فى المبادرة إلى إنشاء منظمة للأمن والتعاون فى الشرق الأوسط تستند إلى مبادئ احترام السيادة الوطنية للدول والالتزام بعدم الاعتداء على الغير وإقرار الحق فى تقرير المصير، وتوفر آليات وأدوات للعمل الدبلوماسى والتفاوضى الجماعى لإنهاء الحروب واحتواء الصراعات سلميًا، وتخلق مساحات جديدة للتنسيق والتعاون من أجل الأمن والتنمية والرخاء بين دول الشرق الأوسط التى تستطيع جميعها الانضمام إلى المنظمة المعنية شريطة تفعيل مبادئها وعدم الحيدة عنها فى سياستها الخارجية.