رؤية السادات الملهمة وإدراك استحالة الحسم العسكرى والضمانات الدولية - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
السبت 22 مارس 2025 1:50 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

رؤية السادات الملهمة وإدراك استحالة الحسم العسكرى والضمانات الدولية

نشر فى : الجمعة 21 مارس 2025 - 7:45 م | آخر تحديث : الجمعة 21 مارس 2025 - 7:45 م

 

منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية فى ١٩٤٥ وقيام دولة إسرائيل فى ١٩٤٨ وتواكب نشوب الحروب العربية - الإسرائيلية مع تفجر الصراع بين القوى الاستعمارية وبين حركات التحرر الوطنى، شهد الشرق الأوسط محاولات متكررة من قبل فاعلين إقليميين ودوليين لاقتراح ترتيبات أمن جماعى إن لحماية مصالحها أو لتحقيق قدر من الاستقرار. على سبيل المثال، وقعت الدول الأعضاء فى جامعة الدول العربية فى ١٩٥٠ معاهدة للدفاع المشترك والتعاون الاقتصادى التى تنص على الالتزام المتبادل بالدفاع عن السلامة الإقليمية والسيادة الوطنية. وفى ١٩٥٥، وبتنسيق بين القوة الاستعمارية بريطانيا والقوة العظمى الولايات المتحدة الأمريكية وبهدف إبعاد الخطر الشيوعى عن الشرق الأوسط وحصار حركات التحرر الوطنى والمد القومى العربى، تشكل حلف بغداد (منظمة معاهدة الشرق الأوسط) من العراق، وتركيا، وإيران، وباكستان. وفى وجه مقاومة مصر الناصرية والقوى القومية، سقط حلف بغداد سريعا وغاب عن المشهد الشرق أوسطى دون أن تغيب أهداف المستعمرين القدامى والجدد.

وفى بعض الأحيان، أسفرت جهود إقليمية ودولية عن إيقاف حروب وصراعات دائرة وعن نجاحات طويلة المدى فيما خص إقرار تسويات سلمية والإبقاء عليها. هكذا انتهت حرب اليمن التى تورطت بها بين ١٩٦٢ و١٩٦٧ مصر والسعودية بفعل وساطات دبلوماسية عربية (توجت باتفاقية الخرطوم ١٩٦٧)، وأنهت مصر وإسرائيل حالة الحرب بينهما ووقعتا على معاهدة السلام فى ١٩٧٩ بوساطة أمريكية. وقبلت الحكومتان العراقية والإيرانية قرار مجلس الأمن الأممى ٥٩٨ الذى أوقف الحرب الدموية بينهما والتى امتدت من ١٩٨٠ إلى ١٩٨٨، بينما أنجز خليط من الوساطات الإقليمية والضمانات الدولية إقرار أطراف الحرب الأهلية اللبنانية لاتفاقية الطائف ١٩٨٩.

وعلى الرغم من أن الشرق الأوسط يعد، ومنذ أواسط القرن العشرين، من بين أكثر أقاليم العالم تعرضا للحروب بين الدول والصراعات العسكرية والنزاعات الأهلية، ومن بين أقلها حظا فيما خص التوصل إلى تسويات سلمية تضمن الأمن والاستقرار، إلا أن قليل الجهود الإقليمية والدولية الذى نجح فى إنهاء بعض الحروب والصراعات حافظ على تماسكه لفترات زمنية طويلة وفى وجه العديد من التحديات الداخلية والخارجية. فيما بينهما، لم تعد مصر والسعودية أبدا إلى المواجهة العسكرية المباشرة أو عبر الوكلاء منذ أن وضعت حرب اليمن أوزارها فى ١٩٦٧. ويظل السلام المصرى - الإسرائيلى قائما على الرغم من ضغوط متتالية تضعها عليه سياسات وممارسات اليمين الإسرائيلى المتطرف وحقيقة تعثر حل القضية الفلسطينية. ولم يحدث اشتباك عسكرى واحد بين البلدين منذ وقف إطلاق النار وفض الاشتباك الأول فى أعقاب حرب أكتوبر ١٩٧٣. أما قرار مجلس الأمن الأممى ٥٩٨ الصادر فى ١٩٨٨ والذى أوقف الحرب العراقية - الإيرانية، فلم يتم خرقه من قبل البلدين وذلك على الرغم من توظيف العراق المتكرر للأدوات العسكرية فى فعلها الخارجى قبل سقوط نظام صدام حسين (٢٠٠٣) وتوظيف إيران الممنهج والمستمر إلى اليوم للحروب بالوكالة فى سياستها تجاه الشرق الأوسط. وحمت اتفاقية الطائف، وبعيدا عن نواقصها الكثيرة، لبنان من الانزلاق إلى الحرب الأهلية مجددا وفى ظروف داخلية وخارجية بالغة الصعوبة لم يغب عنها التكالب الإقليمى والدولى على النفوذ فى هذا البلد العربى الصغير.

• • •

فما شروط نجاح التسويات السلمية للحروب والصراعات فى الشرق الأوسط؟

يبدو أن الشرط الأول هو تسليم الأطراف المتحاربة والمتصارعة بعدم قدرتها على تحقيق الحسم العسكرى، ومن ثم استعدادها للانفتاح على حلول الوسط والمعادلات غير الصفرية وقبولها لدبلوماسية الوساطة، والتفاوض، وضمانات للأمن والمصالح. وقد كان هذا الأمر تحديدا هو ما دفع مصر والسعودية فى ستينيات القرن العشرين إلى قبول تسوية تفاوضية لحرب اليمن، وما دفع أيضا العراق وإيران إلى إنهاء حربهما الدامية —الحرب التى لم ينتصر بها أحد —فى الثمانينيات. وفى بعض الأحيان، تصل الأطراف المتحاربة والمتصارعة إلى هذه القناعة فى ظروف أزمة داخلية أو خارجية قاسية كهزيمة مصر العسكرية فى يونيو ١٩٦٧ والتى سبقت اتفاقية الخرطوم الموقعة فى سبتمبر ١٩٦٧ أو كأزمة انهيار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فى العراق وإيران بعد سنوات الحرب الطويلة بين ١٩٨٠ و١٩٨٨ والتى دفعتهما إلى قبول القرار الأممى ٥٩٨ وإيقاف إطلاق النار. 

أما الشرط الثانى فهو حضور القيادة السياسية الملهمة والمؤمنة بصناعة السلام والقادرة على تجاوز تواريخ وخرائط الدماء والدمار. هكذا كانت قيادة الرئيس الأسبق أنور السادات (١٩٧٠-١٩٨١) الذى دفعته رغبته الصادقة لإنهاء الحرب بين مصر وإسرائيل إلى التفاوض غير المباشر أولا ثم المباشر ثانيا مع عدو خاضت بلادنا فى مواجهته حروبا متتالية. بل إن إيمان السادات الحقيقى للسلام وربطه بين إنهاء الحروب وبين فرص مصر فى التنمية والتقدم، شجعه على القيام بزيارة تاريخية لعاصمة العدو لتحريك مفاوضات «الأرض مقابل السلام» بين الطرفين وإلقاء خطاب غير مسبوق فى برلمانه (الكنيست) كسبا للتأييد الشعبى الإسرائيلى للسلام. هكذا، وتاليا بجهود الوساطة الأمريكية والدعم الدولى وفى وجه معارضة عربية لم تطرح بديلا، تحقق السلام المصرى -الإسرائيلى الذى دفع الراحل العظيم حياته ثمنا له (استشهاد الرئيس السادات فى ١٩٨١).

أما الشرط الثالث لنجاح التسويات السلمية فى الشرق الأوسط، وهو شرط تدلل عليه بالإيجاب خبرة إنهاء الحرب العراقية - الإيرانية وخبرة اتفاقية الطائف الخاصة بلبنان، فهو حضور ضمانات دولية حقيقية تحمى تطبيق التسوية المعنية واستمرارها. فقد كان قرار مجلس الأمن الأممى ٥٩٨ ممكنا فقط بسبب ضمانات أمريكية وسوفيتية وأوروبية قدمت للطرفين المتحاربين، وكذلك كانت اتفاقية الطائف ممكنة بفعل الضمانات السعودية والعربية من جهة والضمانات الأمريكية والأوروبية من جهة أخرى وهى ضمانات أعطيت للقوى الطائفية المتحاربة فى لبنان وللفاعلين الإقليميين المتورطين آنذاك عسكريا فى الداخل اللبنانى— سوريا وإسرائيل وإيران.

• • •

إذا، ماذا تعنى هذه الشروط فيما خص الحروب والصراعات الدائرة اليوم فى الشرق الأوسط؟

تعنى، من جهة، أنه ما لم تقاوم إسرائيل وتقاوم أيضا حركة حماس والميليشيات المتحالفة مع إيران كالحوثيين إغراء اللجوء المتكرر إلى الأدوات العسكرية وتنفتح على تسويات تفاوضية وحلول سلمية، فإن الحروب الدائرة لن تنتهى. تستطيع الدول العربية النافذة، كمصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، أن تلعب دورا بناء فى إقناع حماس والفصائل الفلسطينية المتحالفة معها بالامتناع عن التصعيد العسكرى للرد على الضربات الإسرائيلية الراهنة وبقبول استبعادها المستقبلى من حكم غزة وبالعودة إلى طاولة التفاوض عبر الوسطاء.

غير أن الولايات المتحدة الأمريكية هى وحدها القادرة على دفع حكومة اليمين الإسرائيلى إلى وقف جولة التصعيد الحالية واستئناف مفاوضات تمديد ترتيبات وقف إطلاق النار مع حماس. والشاهد أن الكثير من الشكوك المشروعة تحوم حول ما إذا كانت إدارة الرئيس دونالد ترامب راغبة فى التحرك فى هذا الاتجاه.

أما بالنسبة لميليشيات الحوثيين، ومع التسليم بكون حملة عسكرية أمريكية ممتدة ضدهم قادرة على تحييد قياداتهم وترسانتهم العسكرية ومن ثم احتواء التهديد الذى يمثلونه لأمن البحر الأحمر والأمن فى الشرق الأوسط، فإن إيران كالراعى الإقليمى هى الطرف القادر على دفعهم إلى تغيير ممارساتهم. وهنا أيضا، ثمة ما يبرر الشك فى الرغبات الإيرانية. فما دامت حكومة الجمهورية الإسلامية لا ترى مجالا للتفاوض الجدى مع واشنطن بشأن برنامج طهران النووى ومجمل مصالحها وسياستها فى الشرق الأوسط، يظل من غير المرجح أن تضغط على الحوثيين لتبنى مسارات مختلفة.

فى الشرق الأوسط اليوم، تقف الدول العربية النافذة وحدها، دون شركاء، كقوى راغبة فى صناعة السلام وإنهاء الحروب والصراعات. ليست إسرائيل شريكا محتملا لصناعة السلام الإقليمى، بل هى، شأنها شأن إيران وميليشياتها، مصدر التهديد الأخطر للأمن والاستقرار. وليست إدارة ترامب، وهى المشغولة بحرب أوكرانيا وبالتنافس الكونى مع الصين والتى تعلو بها أصوات أصدقاء إسرائيل، فى وارد الاستثمار فى دعم جهود العرب لإنجاز تسويات سلمية وترتيبات أمن طويلة المدى.

• • •

من جهة أخرى، تدلل شروط نجاح التسويات السلمية فى شرق أوسط العقود الماضية على أولوية حضور قيادة سياسية ملهمة من طراز الرئيس الأسبق السادات أو من طراز السياسيين القادرين إما على الاعتراف باستحالة الانتصارات العسكرية الشاملة كما فعل إسحاق رابين فى إسرائيل قبل توقيع اتفاقيات أوسلو ١٩٩٣ أو الترويج لحلول الوسط التفاوضية كحلول تاريخية مقبولة كما فعل العظيم ياسر عرفات فى التسعينيات لإنقاذ حركة التحرر الوطنى الفلسطينى.

من جهة أخيرة، تدلل خبرات الماضى فى الشرق الأوسط على كون التسويات السلمية والضمانات الأمنية الجماعية، وإن كان ممكنا إطلاقها من قبل فاعلين إقليميين نافذين، تحتاج إلى دعم القوى الدولية الكبيرة. فقد لعبت الضمانات الأمريكية دورا حاسما فى صناعة السلام بين مصر وإسرائيل، ولولا الضمانات الدولية المقدمة للعراق وإيران والمقدمة أيضا للمتحاربين فى لبنان ما نجح قرار مجلس الأمن الأممى ٥٩٨ وما تماسكت اتفاقية الطائف. وهنا تحديدا، يكمن التحدى الإضافى الذى ستتعرض له شئون الأمن والاستقرار والسلام فى الشرق الأوسط خلال السنوات القادمة بسبب ما يبدو من محدودية رغبة إدارة دونالد ترامب فى مساعدة القوى العربية النافذة على التوصل إلى تسويات سلمية تدوم وعزوفها (على الأقل إلى اليوم) عن الاضطلاع بدور نشيط فى صياغة ترتيبات للأمن الجماعى فى الشرق الأوسط لا تهمش الحقوق الوطنية للفلسطينيين ولا المصالح العربية المشروعة.

 

 

عمرو حمزاوي أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي
التعليقات