نشر موقع عروبة 22 مقالا للكاتب صلاح سالم يوضح فيه أن أمريكا تنظر إلى القومية العربية على أنها أيديولوجيا سياسية قابلة للتفكيك على غرار انهيار الشيوعية، إضافة إلى اعتبار المنطقة العربية فراغا استراتيجيا يمكن تشكيله عبر الضغط على الحكام (وتجلى هذا التصور فى طلب ترامب من مصر والأردن توطين ملايين الفلسطينيين)، لكن يؤكد الكاتب أنه بالرغم من محاولات الولايات المتحدة الضغط على الأنظمة الحاكمة العربية لن تنجح فى كسر إرادة الشعوب العربية بل يمكن أن تؤدى هذه المحاولات إلى موجات من المقاومة العنيفة يتقاسم الجميع تكلفتها الجسيمة... نعرض من المقال ما يلى:
على الرغم من أن حرب تحرير الكويت التى تزعمتها أمريكا، وأعلنت من خلالها عن قطبيتها المنفردة، لم تكن لتنجح إلا بدعم لوجستى من دول عربية كبرى، انتصارا للشرعيتين: الدولية والعربية، فقد تصرف العقل الأمريكى وكأن العرب جميعا قد هزموا وليس العراق وحده.
وبينما كانت الشعوب العربية، حتى فى دول التحالف، مصر وسوريا والسعودية، تتجرع مرارة العلقم وهى تشاهد عبر الفضائيات عملية تدمير العراق، كأحد أكثر المشاهد كآبة فى تاريخنا المعاصر، وكانت تعزى نفسها بضرورة تحرير الكويت، فإن الولايات المتحدة لم تكن تصغى إلى تلك المشاعر العميقة، ومن ثم استمرت تُغَذّى ذلك المشهد الكئيب بمشاهد الحصار والتجويع، وصولًا إلى احتلال العراق عام 2003 وتفكيك ليس فقط نظام الحكم بل مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش، بتهمة ثبت زيفها، الأمر الذى غذّى ظاهرة الأسْلَمَة، وأنتج تنظيم «داعش» فى مفاجأة غير سارة لها، نتجت عن تصوراتها الاختزالية لأنساق ثلاثة رئيسية:
التصور الأول، يتمثل فى نظرتها إلى القومية العربية على أنها مجرد إيديولوجيا سياسية قابلة للهزيمة والتلاشى. وكما تداعت الإيديولوجية الشيوعية ومعها نمط الحياة السوفياتى أمام الليبيرالية ونمط الحياة الأمريكى، فقد توجب على القومية العربية أن تسلم قيادتها للحركة الصهيونية. وكما تم تفكيك الكتلة الاشتراكية حول روسيا ليتبدى انكشافها أمام الغرب، تم عزل مصر بسلام منفرد، وتفكيك الكتلة العربية حولها ليتأكد انكشافها أمام إسرائيل. لكن، ولأن العروبة حقا انتماء وجودى وليس مجرد أيديولوجيا سياسية فقد بدت عصية على أى هزيمة يمكن وصفها بالنهائية. وبدلا من الاستسلام لمحاولة إذلالها أخذت العروبة تُبدِّل ثيابها.
التصوّر الثانى، هو تصورها للدين الإسلامى كتراث متخلف، يسهل الضغط عليه والتخويف منه لينكمش أهله على أنفسهم. وهنا يتبدى جهلها الفاضح بالإسلام كدين بالغ الحيوية، يتسم بالحضور الطاغى والهيمنة الكاملة على روح صاحبه، يقيه أى شعور بالخواء الأخلاقى. فالمسلم يمتلك، سواء من أصول اعتقاده، أو من تاريخ حضارته، ما يبعث على الفخر. وحتى إذا رأى حضارته اليوم متخلفة عن نظيرتها الغربية فإنه لا يشعر بهوان عقيدته قدر ما يشعر بالغضب إزاء تحولات تاريخه، فهو أبدا لا يشك فى جدارة الإسلام، بل يكره من يحكمون باسمه أو يعتدون عليه، ولا يتوانى فى رد العدوان وذلك سر آخر من أسرار العنف الأصولى، لا نبرره هنا، بل فقط نفسره.
أما التصور الثالث، فهو نظرتها إلى الجغرافيا العربية كمنطقة فراغ استراتيجى يسهل تشكيلها بالضغط على قياداتها. تلك النظرة التى جرى مرارا التمويه عليها بأغطية الدبلوماسية وأعرافها، هى التى فضحها الرئيس ترامب عندما طالب مصر والأردن بقبول هجرة نحو مليونى فلسطينى إلى أراضيهما، فى «ترانسفير» جديد يمثل نكبة ثانية بعد أكثر من ثلاثة أرباع القرن على النكبة الأولى. يأتى ذلك بعد حضور الولايات المتحدة المباشر ببوارجها وغواصاتها وحاملات طائراتها إلى قلب تلك الجغرافيا لدعم إسرائيل فى عدوانها على غزة الصغيرة المحاصرة، وعلى الجنوب اللبنانى الحزين، مع صمتها المشين عن كل ما ارتكبته ولا تزال ترتكبه إسرائيل فى الساحتين من مجزرة تلو أخرى، وكذلك عن توسيعها للاحتلال وتدميرها للبنية العسكرية فى سوريا.
لا تدرك الولايات المتحدة أنها، بفرض نجاحها فى استنزاف نظم الحكم المحافظة، لن تنجح قط فى كسر إرادة المجتمعات العربية، أو نسخ أصالة المنطقة، والسيطرة الكاملة عليها، حتى لو تنامى وجودها العسكرى على خرائطها. فالمحتمل أن يتلو السكون المؤقت، والهزائم العارضة موجات جديدة من المقاومة، تثير حروبا أكثر شراسة، وتغذى تيارات عنف أكثر أصولية، تجعل السيطرة الصهيو ـ أمريكية عليها أمرا مستحيلا، وإن تقاسم الجميع التكلفة الجسيمة لهذا الإدراك المتأخر.
النص الأصلى:
https://tinyurl.com/ycm4nx4s