غزة لا تستسلم. علَّمتنا من زمان أن الشهادة هى الطريق إلى الحياة. غزة عقدت قرانا تاما مبرما مع الوجود. إذا، هى موجودة من زمان، وستبقى الآن وإلى آخر أزمنة الجبهات العالية والجراح المفتوحة والدماء الأبية والحق الذى يعلو ولا يُعلى عليه.
وعليه؛ الذين كانوا إلى جانب غزة، بالطلقة والهتاف والحبر والكلمات والعبارات والدماء والدموع الشجاعة، قدّموا الدليل الإنسانى المشترك، بين الأرض والإنسان.. ولطالما قيل: «الدماء التى تجرى فى عروقنا هى وديعة».. وديعة غزة، متى طلبتها وجدتها.
هذا الكلام قاصرٌ جدا عن التعبير عن معجزة الانتصار. كانوا يريدون محو غزة. فشروا. أهلها رفعوا دماءهم شعارا، وجراحهم لغة، واستشهادهم موعد أزمنة مفتوحة على قيامة الإنسان. غزة ليست بقعة أرض فقط.. غزة هى سلالة إنسان يتسلّق موته كى تعلن غزة قيامتها الدائمة.
الاستسلام والتزلف والركوع ومصافحة العدو، كلها مستحيلة. ليس المطلوب فى غزة أن يُصار إلى ابتداع زعامات تتنافس. الزعامة والشهادة فى غزة صنوان. والغريب جدا فى ملحمة هذا الشعب أنه متصلٌ بماضيه اتصالاً إنسانيا صارما، وملتزمٌ ببلوغ مستقبل يُبنى بالدم والعرق والأمل. غريبٌ. بل استحالة. غزة لا تيأس. لا تشعر بالعجز، وهى التى يصحُّ فيها قول المسيح: «كنت عريانا فكسوتمونى، وكنت جائعا فأطعمتونى».
لكم الحاضر ولكم الآتى. أنتم الوجود ماضيا وحاضرا ومستقبلاً. وغزة جنة الشهداء الأحياء.. غزة فقيرة أو مُفقَّرة عمدا. الناس يتكدسون فوق بعضهم البعض. السمعة عنها، أنها مدمنة بؤس، وجائعة للخبز، ومفتقدة للدواء. للحذاء، للنور، للدفء. غزة تفتقد إلى فجر يبتسم، وإلى ليلٍ يجثو على عتمته. غزة القوية فوق طاقتها محاصرة من كل التخوم، وبنيتها التحتية مصانة بجهود زنودها وعلو جباهها.
غريبٌ أمر غزة. قرن كامل ولم تجثُ. جاعت. شُرّدت. قُتلت. عذّبت. خُنقت.. وظلّت هى الوحيدة حية ترزق، فى بلاد عربية جاثية على جباهها. اسمعوا جيدا: تعلّموا من غزة. لا نجد مثيلاً لها فى عصرنا، ربما، باستثناء الجزائر وجنوب لبنان.
هذا العالم مقسوم إلى قسمين: عالم غزة وحدها، وعوالم الآخرين التى تخوض حروبا وتقمع شعوبها وقادتها يشربون الأنخاب ليلاً.. نعم، ليست كل البلاد غزة أبدا. لا ثروة تضاهى ثروات غزة الإنسانية. ثروات غزة، التى سجلت فى صكوك الشهداء أنها كما جاء فى الإنجيل: «فى البدء كانت الكلمة». هنا، راهنا، فى البدء المستدام، كانت غزة العاصية عن التطويع، وصلاتها، حى على السلاح.
أسمح لقلمى أن يتجوَّل فى أحوال الظلم. أن التقى بثورة تقاضى الزمن على تأخره فى إشهار الانتماء ضد الظلم والظلام. الشاعر سيزار، أراد أن يكتشف العنف على حقيقته. عنف المضطهد فى وجه عنف المستعمر. «الثائر» يعلن عن نفسه. يقول: اسمى: مُذَل. اسم عائلتى: مهان. إنما حالتى ثائر إلى الأبد. جنسى: الجنس الإنسانى؛ ديانتى: الأخوة؛ فاصل: يا أولاد الضحية من تكونون أنتم. غريب. تنتمون إلى قابيل عندما قتل هابيل. عالم السفّاحين هو العالم الراهن.
لا أستطيع أن أنظر إلى الرئيس الأمريكى إلا كمخلوق مسخ. وغيره من أقزام الغرب الأعظم. وحوش مفترسة وأنياب تعض وأسلحة تبيد، وكلام عن قيم وإنسانية. أما الارتكاب، فهو «الهولوكوست» الغربى. يقول الثائر: جنسى: الجنس المعذب، وديانتى الأخوة. ولكن ما أنت من يهيئها بخلوِّ اليد من السلاح. أنا أهيئها بقبضتى المشدودتين ورأسى الأشعث. ذات معركة زحفنا والخناجر فى قبضة اليد وزحفنا والخناجر فى قبضة يد أخرى.
صاحت الأم: ستموت واحسرتاه.
الثائر: قتلتهُ قتلاً خصبا متدفق الخيرات.
الأم: حلمت بابن يُغمض عينى أمه.
الثائر: آثرت أن أفتح عينى على شمس أخرى.
الأم: واحسرتاه.. ستموت شر موتة.
الثائر: بل خير ميتة. لقد أحببت بلادى وأسرفت. لا تطلبى منى رحمة. يا أمى: العالم لا يرحم.. ليس فى العالم إنسان بائس يُعدَم ولا إنسان شقى يُعذّب، إلا أفتك مثله وأذل.
فجأة. حلّ صمتٌ يُنبئ بأن السماء مفتوحة للشهداء. كم أنت عظيم أيها الغزاوى. لا أحد مثلك. لا أحد قبلك. ولكنك ستُعلّم من يجىء من بعدك، أن الحياة ثمنها غال جدا. ولكن، ثمنها البالغ، يتيح للحرية حضورا منيعا، يعطى الحياة، صك حضور إنسانى.
فى هذه الصحراء العربية، يطلع فجر من غزة. القرى الصغيرة التى رقصت على دمها حتى منتصف الليالى. أصوات الاستغاثة والرجاء وعنف الجراح، راحت توقظ كثيرا من أنقياء القلوب، الذين اصطفاهم المسيح وسمّاهم رسلاً.. الأرض تستيقظ شيئا مستثار الشهادة وأبلغ من الصلوات. الذين شُرّدوا فى الطرقات. الأطفال الذين توكأوا على دموعهم. الأمهات اللواتى تشلّعت حناجرهن وانتحرت أرحامهن، كُنّ يسرقن الأمل أثناء نوم مؤقت. الصبايا اللواتى تسلّحن بالحوار والدمع المرصوص، الذى يشبه سحابة كنارى فى السماء يرقصن على إيقاع الآلام إلى صبية وفتيات يُرتلون آيات من القرآن.
رجاءً.. هيّئوا الطريق لاستقبال غزة. حان وقت تقديس الدموع وسماع هتافات الحياة. لهؤلاء نسأل: ما الحياة؟ الجواب: تعلّم ذلك فى غزة. الحياة فيها معجزة لأنها تريد أن تكون مطوَّبة بالحرية. يا أيتها الشعوب تعرفى على محجة الحرية. هى هنا فى فلسطين ومكان إقامتها: غزة العظمى. هل بالغتُ؟ لا. إننا منتصرون. قامة فلسطين وصلت إلى شعوب الأرض، فنزلت إلى الشوارع وملأتها انتسابا إلى فلسطين.
نصرى الصايغ
موقع 180
النص الأصلي
https://tinyurl.com/ykmjhcf6