التكنولوجيا تصنع هويتنا.. وحروبنا! - مواقع عربية - بوابة الشروق
الأربعاء 1 يناير 2025 6:29 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التكنولوجيا تصنع هويتنا.. وحروبنا!

نشر فى : الأحد 29 ديسمبر 2024 - 6:15 م | آخر تحديث : الأحد 29 ديسمبر 2024 - 6:15 م

التكنولوجيا علاقة الإنسان بالأشياء؛ الهوية علاقة الإنسان بالآخر البشرى. تستند التكنولوجيا على العلم الحديث الذى يُقدّم لنا أسباب ما يحدث ويُعلل حدوثه، ويُقدم لنا تفسير ما يحدث فى الطبيعة والمجتمع. وتستنند الهوية إلى علاقات البشر بين بعضهم البعض. فهى قبل كل شىء أمر من أمور السياسة. لكن الإنسان يتوهم أن الهوية معطاة وحسب، فلا خيار له فيها.
الهوية تُعرّف صاحبها بالآخر. فهى علاقة تزرع بالآخر شيئا من الذات، وفى الذات شيئا من الآخر. فهى علاقة تزرع بالآخر شيئا من الذات، وفى الذات شيئاً من الآخر. إذا كانت الهوية أمرا سياسيا فهى تسوية، أو تراكم تسويات، بين الذات والآخر. لا تستطيع الذات أن تكون وجودا بعيدا عن التأثير والتأثر. هى ما يستدعى أن يكون صاحب الذات، فردا كان أم جماعة (طائفة، إثنية، مجتمع) هو نفسه وغيره فى آن معا. لا يمكن للذات أن تكون مستقلة دون تأثير خارجى وإلا تحوّلت إلى جماعة مغلقة.
العلة فى الطائفية أنها تميل دائما إلى تحويل كل طائفة إلى كيان قائم بذاته ولذاته وفى ذاته، كما يقول الفلاسفة؛ وهذا ما يجعل المجتمع فى حال انقسام دائم. انقسام لا بدّ أن يتحوّل إلى منافسة ثم إلى حرب أهلية بين الحين والآخر. فالسلم الأهلى فى نظام طائفى مغلق، أو شبه مغلق، هو حالة حرب دائمة، وإن كانت متقطعة. النفوس دائمة التوتّر، الخوف من المستقبل يشل المجتمع، والبارانويا تُعطّل الإرادة. فى جو من هذا النوع لا يستطيع المجتمع أو أى طائفة من الطوائف صنع المستقبل الذى لا بدّ له فى كل حين من إرادة متحررة من الخوف وعلاقة ثقة بالآخر، مهما كان.
تُعنى السياسة بإدارة شئون المجتمع، ولا تقتصر على التنافس على السلطة، كما هو شائع. وهى لا بدّ أن تُبنى على العلاقات بين الأفراد وتبادل المعلومات بينهم وجميع أنواع المعرفة ـ التى لم تعد عند معظم الناس ـ نتيجة البحث والسؤال. لم يعد المرء يسعى وراء المعرفة أو بالأحرى المعلومة، بل هى تسعى إليه عبر شاشات ووسائل التواصل الاجتماعى التى تُغْرِق العقل البشرى بتدفق المعلومات التى منها ما هو صحيح ومنها ما هو كاذب. وقد صارت المعلومة الكاذبة جزءا أساسيا مما يدخل عقل الإنسان ويُشكّل الوعى لديه. لم يعد البحث عن الحقيقة طريقا للمعرفة، بل صارت تصل إلى الإنسان وتتدفق إليه مُذرّرة، أى جملة من المعلومات المُفكّكة وغير المترابطة. لم تعد هناك قدرة على الربط بين المعلومات لدى دماغ غارق فى كل ما يرد إليه. هى حرب على الوعى وفى نفس الوعى حرب على الهوية التى فى النهاية يتشكّل منها الوعى.
• • •
يُفترض بالتكنولوجيا أن تزيد قدرة الإنسان على السيطرة على الطبيعة والبيئة. فهى قدرة استخدام العلم لإعادة ترتيب الأشياء وما يتاح للإنسان من الطبيعة لإنتاج أشياء مفيدة، لكن التكنولوجيا، بخاصة ما يتعلق منها بالمعلومات تسيطر على الإنسان، وتعيد تشكيل وعيه. تعيد تشكيله بما يتناسب مع متطلبات من بيده المعلومات، وما يُبث بين الفرد والآخر جزء قليل مما تبثه منصات التواصل الاجتماعى للناس جميعا. أما ما اعتبره كُثر عصر تقدم تكنولوجى يؤدى إلى سيطرة الإنسان على الطبيعة، فإنه يُصبح تقدما مؤديا إلى سيطرة الإنسان على الإنسان. سيطرة القلة من ذوى المنصات المعدودة على الكثرة من العامة الذين يتلقون الوعي، ويتحول الإنسان من فاعل إلى مجرد متلق، ومن قادر إلى مقدور عليه؛ بالأحرى السعى لاكتساب القدرة وتحقيق المطالب يتحول إلى استسلام لما يراد للإنسان أن يكون عليه.
لم تعد التكنولوجيا وسيلة للسيطرة على الطبيعة بل للسيطرة على الإنسان، وما عاد العلم الذى هو أصل التكنولوجيا أداة بيد الإنسان فى مواجهة الطبيعة بل أداة بيد القلة للسيطرة على الأكثرية.
• • •
هوية الفرد يُحددها الآخر لكنه ليس الآخر المتساوى بل الآخر المتفوق، وما عاد هناك مجال للتفاوض بين أطراف على شىء من التساوى، بل هيمنة يفرض أصحابها ما يشاءون، وتُلغى السياسة وإمكانيات التسوية وتراكم التسويات. عبودية من نوع جديد لا تستدعى أن يملك الواحد الآخر، كما فى الماضى، بل تتجسّد هيمنة لا فكاك منها، إذ ليس هناك كُثر لا يحملون الآلة الذكية أو لا يحلمون بملكيتها. تزداد الهوة بالمعلومات والمال بين القلة والكثرة، وتزداد معها السيطرة. ومن الطبيعى أن تكون الغلبة للقلة التى تملك على الأكثرية التى لا تملك أو تملك القليل، مع التذكير أن ملكية المال والمعلومات وجهان لعملة واحدة.
المعرفة الحقيقية تصنع بالشك والسؤال؛ وعندما يصير كل شىء مُعطى يكون مصير الإنسان أن يُصبح أداة للمنصة أو لزعيم الطائفة وأكباشها.
• • •
مع سقوط الاتحاد السوفيتى، ولا حزن على سقوطه، صارت الرأسمالية معطى وكأنها طبيعة البشر وعلاقتهم بالأشياء، وازدهرت النيوليبرالية. كانت الليبرالية تسأل عندما كانت مضطرة إلى مواجهة الشيوعية. لم يعد الأمر كذلك. إذ جرى التحوّل الكبير فى أواخر القرن العشرين إلى النيوليبرالية والخصخصة وحرية تصرف القلة بالكثرة، والرأسماليين بالعامة. كان ذلك وجها آخر لسيطرة التكنولوجيا على الهوية. وصارت التكنولوجيا مصنعا للهويات التى تشن الحروب على أساسها، وهى فى معظمها قاتلة، إذ تصدر عنها الحروب الأهلية؛ وتزعزع أمر الدولة إذا أفلت من يدها المواطن الذى صار أداة بيد المنصات لا فاعلاً تتشكل منه الدولة وتخضع له السلطة.
• • •
انتصرت التكنولوجيا على العلم وشكّلت الهوية، وكلُ ذلك مؤداه انتصار اليمين على اليسار، والتلقى على المبادرة، والجواب المعطى على السؤال المشكك، واليقين على الظن. لم يعد اليقين غلبة الظن كما كان يقول الفقهاء. صار اليقين مصدر الفعل والأصولية ملاذ العقل. أما النفوس المُعذبة المحرومة من أشياء الكون فتصبح متلطية وراء المعتقد، والعقيدة تُغذيها وسائل التواصل الاجتماعى، وما هو مفترض هو ما يُفرض. لم يكن الإنسان أداة لغيره كما هو فى هذا الزمن. ألا يتشبث الكل بالدولار، وهو حقيقة افتراضية لا تُعبّر عن اقتصاد من يطبعه، بل تحميه القوة العسكرية لمن يتولى إصداره. ثم يحاول الغير مواجهة الدولار وابتداع عملة أخرى لكن دون طائل إلى أن ظهرت عملة البيتكوين التى لا يفهمها إلا قلة ممن يتلاعبون بها.
سيطرت التكنولوجيا على الهوية، ليستسلم البشرى لها ظنا منه أنها هوية يختارها هو فى علاقته مع الآخر. إذ تصير مفروضة عليه ممن بيده أو بيدهم.. الأمر.

الفضل شلق

موقع 180
النص الأصلى:
https://bitly.cx/aLGhH

التعليقات