ذهبت السكرة وجاءت الفكرة!.. نهاية الحلم اللذيذ! - محمد عبدالشفيع عيسى - بوابة الشروق
الجمعة 3 يناير 2025 9:25 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ذهبت السكرة وجاءت الفكرة!.. نهاية الحلم اللذيذ!

نشر فى : الثلاثاء 31 ديسمبر 2024 - 6:50 م | آخر تحديث : الثلاثاء 31 ديسمبر 2024 - 6:50 م

نعم ويا له من حلم، أو كأنه حلم، ذلك الذى كان! ولم يكن ذاك حلما قصيرا، أو «غفوة»، ولكنه حلم ممتد فى الزمان والمكان حقا. وأما الزمان فهو نصف قرن تقريبا من عام 1945 (نهاية الحرب العالمية الثانية) حتى عام 1990 (نهاية الاتحاد السوفيتى ومعه نظام «القطبية الثنائية»). وأما المكان فهو على اتساع رقعة المعمورة كلها. وفى المنتصف من الحقبة الزمانية المذكورة بالضبط تقريبا، أى منذ 1974 ولما بعدها بسنوات قلائل، حدثت النقطة الفاصلة أو وقعت الواقعة. ففى مايو 1974 انعقدت (الدورة الاستثنائية السادسة للجمعية العامة للأمم المتحدة) والتى أصدرت فى نهاية دور انعقادها ما سمّى (بالإعلان وبرنامج العمل حول إقامة نظام اقتصادى عالمى جديد).. كان ذلك حدثا جللا، واكبته أحداث جسام أيضا على الصعيد السياسى الإقليمى والعالمى، وخاصة حين ألقى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية خطابا مدويا فى إحدى الجلسات للدورة العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة. وبعدها، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا تاريخيا باعتبار «الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية» Zionism  as a Form of Racism  ذلك القرار الذى قامت الجمعية العامة (ذاتها) بعد ذلك بسنوات، باعتباره كأنه لم يكن!!.

إذن فقد كانت هناك دفعة عالمية قوية اقتصاديا وسياسيا، ومن شأنها توليد روح تفاؤلية عميقة حول مسير ومصير النظام العالمى؛ ورحْنا فى حالة تشبه «سكرة الخمر» التى أبدع فى وصفها الشاعر العربى من العصر العباسى الأول فى القرن الثانى للهجرة (أبو نواس الحسن ابن هانى) وخاصة فى قصيدته العصماء (دع عنك لوْمى…): صهباء لا تنزل الأحزان ساحتها.. لو مسّها حجَرٌ مسّته سرّاءُ.

قد ظنّنا أن التاريخ الإنسانى قد (انصلح) حاله إلى غير رجعة؛ وأن العدالة الدولية، والاستقرار العالمى، على الأبواب. لكن التاريخ اتخذ مسارا لولبيا فعاد إلى سيرته الأولى، سلسلة متصلة الحلقات، جيئة وذهابا، من العدالة إلى انعدام العدالة، ومن الاستقرار إلى «عدم الاستقرار العميق».

هكذا وقعت الواقعة مرة أخرى، فإذا بأحد رُكنىْ النظام العالمى، ثنائى القطبية، يسقط على الأرض مطاحا به فى تطور عاصف مدوّ، وذلك هو «الاتحاد السوفيتى» مقابل القطب الآخر العتيد «الولايات المتحدة الأمريكية».

وإذ ذاك، تربع القطب الأمريكى (على العرش)، وأطلق بعض الخبراء على ذلك اسم «القوة العظمى الوحيدة» Lonely super-power. وانتهى إذن «الحلم» الذى كان لذيذا حقّا (1945-1990)، مثله كمثل «الحلم الأمريكى» الذى تغنّى به الكثيرون سنينا.

•  •  •

فى يوم الثالث من ديسمبر الماضى ــ 2024 ــ كان لنا فى مؤسستنا العلمية العتيدة ــ معهد التخطيط القومى ــ لقاء ضمن ما يسمى (المتابعات العلمية)، وكان موضوعه التقرير الصادر مؤخرًا عن عدد من المنظمات الدولية ضمن أسرة «الأمم المتحدة» بعنوان (تمويل التنمية المستدامة). وكان لى حظ المشاركة بكلمة تعقيبية قصيرة، حول الروح «التشاؤمية» العميقة التى بدا عليها ذلك التقرير وهو يناقش أوضاع التمويل الدولى الراهن وما يتصل به من قضايا الاقتصاد الدولى المعقدة: وفى مقدمتها تفاقم الديون العالمية، وانخفاض معدلات الاستثمار، وتزايد البطالة، وفجوة التمويل التنموى، وتعاظم الهوّة بين العالمين: المتقدم اقتصاديا، والنامى.

وقد أدليت بذلكم التعقيب الموجز، انطلاقا مما أسميته «نهاية الحلم» 1945-1990، وإن شئت فقل، انكشاف «الكابوس» (1990-...)، وكان ذلك امتدادا لمقالنا الأخير المنشور فى (الشروق)، بعنوان (الحرب قبل السلام.. والعنف قبل العمران).

فى محاولة لاستعادة القراءة لما أرتأينا، ذكرت أن «نهاية الحلم» و«ابتداء الكابوس» تقتضى اتباع آليات جديدة، أو استراتيجيات وتكتيكات مختلفة عما كان عليه الحال فى مرحلة «ما بعد الحرب العالمية الثانية».

وإنما تنطلق تلك الآليات والاستراتيجيات والتكتيكات (الجديدة ــ القديمة) مما هو قريب من الروح التى سادت فى منتصف السبعينيات من القرن المنصرم، وفق ما سبقت إليه الإشارة.

وذكرت فى هذا المقام ثلاث نقاط؛ أولاها: ضرورة العودة (النسبية) لما كنا نطلق عليه «الاعتماد على النفس» Self-Reliance. فإن شحة الموارد الدولية المتاحة للتمويل التنموى، واتساع فجوة الموارد بين العالمين المكوّنيْن لعالمنا، يفرض ضرورة العودة إلى نقطة البداية: الاعتماد على الذات، فى ظروف جديدة مختلفة عما كان عليه الحال.

أما النقطة الثانية، المتصلة بما سبق اتصالا وثيقا، فهى «الاعتماد الجماعى على النفس»  Collective self-Reliance، وبتعبير آخر، إعادة تنشيط حركة التعاون والتكامل الإقليمى، كما هى الحال مع تكاملية الإطار العربى. ومن أمثلة ذلك: تجمع بريكس BRICS الذى بدأت نواته بالدول الخمسة: البرازيل، وروسيا والهند، والصين  وجنوب إفريقيا، ثم توسعت لتنضم أو تنتسب أخريات فى الأعوام القليلة الأخيرة، ومنها جمهورية مصر العربية. وهناك أيضا تجمع «ميركسور» فى أمريكا اللاتينية- و«آسيان» ASEAN فى جنوب شرق آسيا، ومنطقة التجارة الحرة الإفريقية الثلاثة، ذات المكونات العتيدة وأهمها: كوميسا فى شرق ووسط إفريقيا، و«إيكواس» فى غرب إفريقيا. وأما جامعة الدول العربية، فهى ذلك الكيان الجامع للأقطار العربية، بشجرتها الباسقة، وفروعها الغزيرة، مثل «منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى»، والتى برغم نشاطها الجمّ، على الصعيد (النظرى) لم تنتج عمليا ما يرقى إلى الطموح العربى أو شطر من الطموح، وفشلت إلى حد بعيد، لأسباب اجتماعية وسياسية إقليمية ودولية معقدة، مما يستدعى إعادة النظر الجذرية.

بالنسبة للنقطة الثالثة فيما قدمناه من عرض موجز فى ذلكم اللقاء الثقافى، فإنها تتصل بما سبق لنا التعرض له على صفحات (الشروق) تحت عناوين من قبيل (من المشروعات الكبيرة إلى الصناعات الصغيرة) و(الصغير جميل).

•  •  •

خلاصة ما أردنا الخلوص إليه أن الموارد الخارجية التى تأتى إلى مصر على سبيل المثال، تتجه فى المقام الأول إلى مشروعات البنية الأساسية والسياحة والإسكان الفاخر. وأما نحن فنريد إعطاء أولوية خاصة أيضا إلى توجيه الموارد المحلية الخالصة إلى المشروعات الصناعية – أو التصنيعية manufacturing سواء منها الصغرى والصغيرة أم المتوسطة. وهكذا يمكن أن تتولد الفكرة النافعة بدلا من (السكرة) الزائلة. وكل ذلك بدلا من الركض وراء ذيول الحلم الذابل، والذى غدا كابوسا أو ما يشبه الكابوس. فهل نفعلها حقا؟

أستاذ باحث فى اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية

 

محمد عبدالشفيع عيسى أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
التعليقات