نبذة عن سوريا «الصغيرة ــ الحبيبة».. وحديثٌ ذو شجون - محمد عبدالشفيع عيسى - بوابة الشروق
الأربعاء 5 فبراير 2025 10:44 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

نبذة عن سوريا «الصغيرة ــ الحبيبة».. وحديثٌ ذو شجون

نشر فى : الأربعاء 5 فبراير 2025 - 8:35 م | آخر تحديث : الأربعاء 5 فبراير 2025 - 8:35 م

تشاء الأقدار أن يكون لمنطقة «المشرق العربى» وضع خاص جدًا، ونقصد هنا ما يسمى تاريخيًا «الشام والعراق»، إذ يضم «الشام» كلاً من (سوريا الكبرى) أى سوريا الحالية ولبنان وفلسطين التاريخية بما فيها «الأردن» الحالية. ونستثنى منطقة «شبه الجزيرة العربية» ــ بما فيها الخليج ــ من التعريف المحدد لـ«المشرق العربى»، فلها شأن آخر.

 


يتّسم الوضع «الخاص جدًا» للمشرق العربى وفق التحديد «الجيو ــ بوليتيكى» السابق، بخاصيتين أساسيتين: أولاهما، افتقاد «الوحدات الإقليمية» التى تضم أجزاءً مختلفة من إقليم الدولة بالمعنى الدقيق، نظرًا للتبعثر والتشرذم الجغرافى لمنطقة «المشرق» أو ما يسمّى بالإنجليزية Fragmentation وهو ما أطلق عليه بعض البحّاثة تعبير «البلقنة»، قياسًا على التبعثر الجغرافى/ السياسى الذى كان يميز منطقة البلقان وإلى حد ما شطرا من شرق أوروبا، خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ويعود «التشرذم» المشرقى إلى عوامل تاريخية معقدة، ليس هنا مجال سردها، سواء فى مراحل الدول الإسلامية الكبرى: الأمويين والعباسيين وإلى حد الفاطميين، أو فى عهد دويلات «المماليك» ثم الأتراك العثمانيين منذ سيطرة هؤلاء على المشرق ومصر فى 1516-1517.
وثانيتهما، أن «المشرق العربى» يتسم تاريخيًا ــ جغرافيًا، بإحاطته بكيانات سياسية كبيرة، موحدة لدرجة عالية، برغم التنوع «الجماعوى» أو «الإثنى»، وبتوفر عوامل القوة النسبية لدرجة ممارسة السيطرة على ما حولها، إلى حد بعيد. ونقصد هنا، «بالتحديد»، كلا من تركيا وإيران الحاليتين، وإذ كان «الروم» والفرس ــ وتوابعهما ــ يهيمنان على الفضاء الإقليمى المشرقى هيمنة تامة أو شبه تامة منذ بزوغ العصر الوسيط وخلال شطر غالب من العصر الحديث ــ حتى بروز السيطرة الاستعمارية الغربية الحديثة فالمعاصرة.
• • •
لذلك، كان ــ ويكون ــ المشرق العربى محط أنظار القوى الكبرى والكبيرة، من حوله، وبعيدًا عنه كذلك، إضافة إلى تشرذمه التاريخى، والتوّزع أو التشرذم «الإثنىّ» العميق (ونشير هنا أيضًا إلى أقوام أو قوميات أو «شبه قوميات» أبرزها «الكرد»)، وذلك بفعل ما أشرنا إليه من عوامل متعددة، ومن بينها تشابك تاريخه مع تاريخ «آسيا الوسطى وهضبة الأناضول»، من جهة أولى، و«الفضاء الفارسى» الواسع، من جهة أخرى.
لعل التوزع أو التشرذم الاجتماعى، إضافة إلى افتقاد الوحدة الإقليمية المميزة للدول مكتملة الأركان، وخاصة «وحدة الحياة السياسية» و«الحياة الاقتصادية المشتركة»، هما اللذان جعلا المشرق «محط أطماع»، بطبيعته، إن صحّ التعبير، كما أنه «مقرّ» و«ممرّ»، كما قال البعض فى وقت ما خلال أواسط القرن العشرين.
وقد بذلت محاولات للتغلب على التشرذم «المتأصل» للمشرق، بدعوات مختلفة مثل «سوريا الطبيعية» و«سوريا الكبرى»، لتضم أشتاتًا مختلفة من منطقة المشرق أو الشام، واخترع البعض (وهو هنا السياسى «أنطون سعادة») مصطلح «الأمة السورية» ومن ثم «القومية السورية»، وأوجد من أجل ذلك حزبا هو «الحزب القومى السورى»، الذى تلاشى فكره السياسى وكينونته العضوية، منضمّا بعد ذلك ــ بصورة أو أخرى، إلى الإطار العربى الأوسع.
بيد أن الاستعمار البريطانى والفرنسى، خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان لهما شأن أىّ شأن فى تعميق «البلقنة» القائمة على الشّرذْمة التاريخية ــ الجغرافية، ثم إعطائها محتوى سياسيًا متوغلاً فى أعماق الحياة الاقتصادية والسياسية، عبر ما أطلقت الأدبيات العروبية مصطلح «التجزئة»، كما هو الحال فى العراق، وسوريا ــ لبنان وفلسطين والأردن.
• • •
الأخطر من هذا كله، هو تعميق الشرذمة والتدخل الخارجى، كليهما، من خلال إقامة «رأس الحربة» الصهيونى، رويدًا رويدًا، منذ ما يسمى «وعد بلفور»، فى الثانى من نوفمبر 1917 حتى إقامة ما اعتبروها «دولة» (وهى ليست دولة، بحق)، باسم «إسرائيل» فى عام النكبة 1948 وما سبقه بقليل وما تلاه.
غدا رأس الحربة الصهيونى، منذ ظهر كفكرة ودعوة ثم كحركة، وأخيرًا (دولة) ..!، خنجرًا مسمومًا ــ إن صحت العبارة ــ فى ظهر المشرق العربى، بكل أوجاعه، ثم فى ظهر المنطقة العربية كلها، شاملة شبه الجزيرة والخليج ووداى النيل والمغرب العربى الكبير.
لذلك ينضم «الخنجر المسموم» ــ الذى فعل ما فعله فى نكبة 1948 وعدوان 1967 وما تلاهما، إلى عوامل التشرذم والتدخل الإقليمى والعالمى، ليكون «المشرق» ممرًا للنفوذ الخارجى الاستعمارى والصهيونى، ومقرًا دائمًا للمؤامرات الخارجية بالذات، على الكيان السياسى للجماعة العربية.
• • •
ثم تشاء الأقدار التاريخية، فتجعل من منطقة «المشرق» ساحة لصراعات وتناقضات الأنظمة السياسية العربية وفى الجوار الجغرافى، خلال حقبة ما بعد الاستعمار Post-Colonialism تحت لواءات مختلفة، سياسية ــ حزبية أو غير حزبية، فيتعمق الشرخ القائم، وتسهّل تلك على الخنجر المسموم فعله، فتجعل من ثم عملية بناء «الوطن» Nation-building مهمة بالغة الصعوبة إن لم يكن الأمر أكثر من ذلك حقًا.
لذلك، لاحظنا «ظاهرة الانقلابات» والتغير السياسى السريع، مدفوعتين بمغامرات «الخنجر المسموم»، على ساحات فلسطين التاريخية (شاملة الأردن) ولبنان، شماله وجنوبه والعاصمة بيروت.
ووجدنا على ذلك مثالاً أو أمثلة على امتداد سبعينيات القرن وثمانينياته وتسعينياته، حتى تداعيات طوفان الأقصى عام 2023- 2025.
وأما سوريا «الصغيرة»، سوريا بحدودها الطبيعية والسياسية الحالية المعترف بها دوليًا، «سوريا الحبيبة»، فإنها، وإن اعتُبِرت «قلب العروبة النابض» كما قال جمال عبد الناصر، فإنها كانت، ولم تزل، شارة وإشارة تقرّب لنا المعنى البعيد، وربما (تُبعد القريب)، قلبًا نابضًا أو غير نابض، للأسف التاريخى الشديد.
وما الأحداث الأخيرة، فى سوريا «الصغيرة ــ الحبيبة»، سوى تأكيد جديد على المعانى السابقة التى حاولنا أن نلمح إليها ها هنا. فماذا يخبئ لسوريا وللعرب جميعًا، هذا الزمان..!؟ أم لعلنا نردد من وراء الشاعر الأندلسى: (ألقابُ مملكةٍ فى غير موضعها// كالهرّ يحكى انتفاخاً صورة الأسدِ).
ولكنه حديث ذو شجون..!

محمد عبدالشفيع عيسى أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
التعليقات