قبل نحو ثلاثة أسابيع تلقيت اتصالًا هاتفيًا من صديق عزيز، قال لى: ألا تريد أن تجرى حوارًا صحفيًا مع المسئولين عن الحزب السياسى الجديد المزمع إطلاقه قريبًا؟
أجبته: بالطبع أرحب بذلك فوظيفتى التى أعتز بها أننى صحفى، لكن ما أرجوه أن أطرح كل الأسئلة التى تشغل بال الناس عن الحزب الجديد الذى لم أكن أعرف اسمه أو أسماء غالبية قياداته، ورد المسئول على الفور: جهز ما تشاء من الأسئلة.
فى اليوم التالى ذهبت إلى المكان المتفق عليه بأحد فنادق التجمع الخامس، ووجدت أكثر من مائة شخصية من فئات وقطاعات كثيرة من المجتمع المصرى. وتم الاتفاق على أن أسمع النقاش المفتوح أولًا الذى سيتم على عدة أيام، وبعدها نتحدث.
حضرت بالفعل أربعة لقاءات، الأول كان عامًا، والثانى مع مجموعة من الاقتصاديين، والثالث كان مع المثقفين والفنانين والرابع مع الشباب، وبعدها كانت كل أسئلتى تقريبًا قد تم الرد عليها، وهى أسئلة وأجوبة أرجو أن أعود إليها لاحقًا.
خلال هذه الجلسات النقاشية، والتى شهدت مستوى غير مسبوق من الصراحة لفتت نظرى شابة مصرية وقفت ووجهت سؤالًا محددًا إلى المنصة التى كانت تضم الدكاترة عاصم الجزار والسيد القصير وضياء رشوان، وهو: ما الذى سوف أستفيده لو انضممت إلى أى حزب سياسى؟
الفتاة لم تنتظر إجابة المنصة، بل بادرت، وقالت إن الإجابة هى لا شىء.
شخصيًا لمن اندهش من سؤال الفتاة الذى اعتبره جارحًا وكاشفًا لمستوى الحياة الحزبية بل ومستوى الثقافة السياسية لغالبية المصريين.
هل نلوم هذه الفتاة على سؤالها الغريب والعجيب أم نلوم المناخ والأسباب والأجواء التى جعلتها تطرح السؤال بهذا الشكل؟
ظنى أنه لا يمكن إطلاقًا لوم هذه الفتاة وأمثالها، لأن الحياة السياسية ومنذ عام 1952 وحتى هذه اللحظة لم تكن طبيعية لأسباب كثيرة، بعضها موضوعى، وبعضها ليس كذلك.
قبل ثورة يوليو 1952 كانت هناك حياة حزبية كاملة وتنافس كبير، لكن من المهم الاستدراك بأنه كان هناك أيضًا احتلال إنجليزى بدأ عام 1882 وانتهى بقيام ثورة يوليو، والأهم أن حزب الشعب والأغلبية، وهو الوفد وطوال الفترة الليبرالية من 1923 وحتى 1953 لم يحكم إلا سبع سنوات، مقارنة بالأحزاب المدعومة من القصر أو الاحتلال.
ثورة يوليو ألغت الأحزاب فى بدايات عام 1953، واستعاضت عنها بكيانات ومؤسسات شمولية، مثل هيئة التحرير والاتحاد القومى، لكنها لم تحقق الهدف من الاتحاد الاشتراكى عام 1962، ليكون التنظيم السياسى الوحيد، ويضم قوى سياسية واجتماعية مختلفة داخله.
فى 5 يونيو 1967 وقعت الهزيمة الكارثية، وتوفى جمال عبدالناصر فى سبتمبر 1970، وانتصرت مصر فى أكتوبر عام 1973، ثم بدأت سياسة اللانفتاح الاقتصادى بعدها بعام ثم تجربة سياسية جديدة هى المنابر الثلاثة اليمين، ويمثله حزب الأحرار، واليسار ويمثله حزب التجمع، والوسط ويمثله حزب مصر، لكن الرئيس الراحل أنور السادات قرر حل حزب مصر، وهرول أعضاؤه إلى الحزب الوطنى الجديد الذى تشكل عام 1977. وبعده تشكلت العديد من الأحزاب، مثل حزب العمل الاشتراكى الذى «استلف» عشرين عضوًا من الحزب الوطنى، ثم عاد حزب الوفد بحكم قضائى.
الحزب الوطنى ظل مهيمنًا على الحياة الحزبية حتى قامت ثورة 25 يناير 2011، وتم حله، وشهدنا حزب «الحرية والعدالة» الإخوانى لمدة عام واحد فقط، وتم حله أيضًا بعد ثورة 30 يونيو 2013. ثم شهدنا تجارب حزبية متعددة طوال السنوات العشر الماضية، وتقديرى أن معظمها لم ينجح فى جذب غالبية الناس، والدليل أن عدد المواطنين الذين انضموا إلى حوالى 84 حزبًا رسميًا وعشرين تحت التأسيس لا يزيد على 1٫5 مليون مواطن فى بلد تعداده 107 ملايين نسمة.
المنطقى أن المواطن الذى يقتنع ببرنامج حزب ينضم إليه، ويدفع اشتراكًا سنويًا، ويحضر ندواته ومؤتمرته، ثم يصوت له فى الانتخابات، وإذا وصل الحزب للحكم ينفذ برنامجه.
لكن ولأن التنافس لم يكن كاملًا أو صحيًا لأسباب كثيرة، فإن العدد الأكبر من المصريين تسرب إليه بأنه لا أمل فى الأحزاب إلا إذا أراد أن يحصل على منفعة أو خدمة أو وظيفة فينضم إلى أى حزب قريب من الحكومة.
هذا المناخ المستمر منذ عام 1952 هو الذى جعل الفتاة وغيرها تسأل هذا السؤال الاستنكارى الذى يربط الانضمام إلى الحزب بالحصول على منافع، وليس التبرع بالوقت والجهد، وأحيانًا المال من أجل تنفيذ برنامج الحزب.
السؤال: هل تغير هذا المناخ وهل هناك أمل فى تغييره؟