‎المَحفَل - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الأحد 5 يناير 2025 4:55 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

‎المَحفَل

نشر فى : الجمعة 3 يناير 2025 - 7:20 م | آخر تحديث : الجمعة 3 يناير 2025 - 7:20 م

‎قبل ساعاتٍ من انطلاق دقَّات الثانيةِ عشرةِ مُنتصَف الليل؛ انطلقت المُوسيقى في أماكن عديدة، وارتفعت أصوات بالغناء. ضمَّت المَحافِل التي أُقيمت هنا وهناك أفرادًا وجماعاتٍ من شتَّى البِقاع، وضجت الأرجاءُ بألوان من المَرح وصورٍ من التَّرفيه. تكالبَت شُعوبٌ على الاحتفاءِ بحلول سنةٍ جديدةٍ سَعيدة؛ فيما شعوبٌ أخرى تتجمّد بردًا ويقضي أفرادها نحبَهم حرقًا وقصفًا وجوعًا. انتهى العامُ وقد فاضَ بالمُؤسِيات، وحلَّ آخرٌ مُثقلٌ بما لم يَنته بعد، ولم يكُن في الحسبان أن نرى ما رأينا ولا أن نسمعَ ما سمعنا، ولا أن ندهشَ بما فعلَ أصحابُ المَقام العالي منا؛ رواد المَحافل والمُلتقيات على مُختلف الأصعِدة.

• • •

‎المَحفلُ اسمُ مكان، مُشتقٌ من الفِعل حَفَلَ الذي يعني اهتم واعتنى، والجَّمع من المفردة مَحافل؛ وهي أماكنُ الاجتماع بشتَّى أنواعها، ولئن قيل حَفلَ الناسُ فالقصد أنهم احتشدوا. ثمَّة مَحافلٌ سياسيَّة وأخرى اجتماعيَّة وثالثة عقائديَّة، ومِن الأخيرة المَحفلَ المَاسونيّ الذي نال شهرةً واسعةً في عقودٍ سالفة، ودارت حوله أقاويلٌ غامضةٌ وراجَت أسرارٌ وازدهَرت أحاديث، ثم ذَوت كلُّها مع مُرور الزَّمن وصُعود جماعاتٍ أخرى أوضح تأسيسًا، وظهور مَحافل ومُنتديات أكثر حداثة؛ كثيرها لا يُخفي مَبادئه ولا يُسدِلُ الستائرَ على أغراضِه وأدواته.

• • •

‎لا يفتأ المَرءُ يتابع تلك المَحافِل التي تنعقد على التوالي تحت شعاراتٍ رنَّانة وعناوين برَّاقة. مُؤتمراتٌ وقِممٌ ومُبادرات يرتادها سادةٌ ووُجهاء؛ يُدلون مُبتسمين بتصريحاتهم وبياناتهم، ويشاركون في فيضٍ من الحِوارات. يَرسمون خرائطَ السَّعادة ويعلنون أن الوصولَ إليها وشيكٌ؛ لكن الكلامَ المُفرط يأتي مُعظم الأحيان مَقرونًا بغياب فعلٍ يُترجِم فحواه، وقد اعتدنا أن نُعلقَ على المسافةِ الشاسِعة التي كثيرًا ما تتخلَّق ما بين الأقوالِ والأعمال بالحِكمة الشَّعبية الذائعة: أسمع كلامَك أصدقك أشوف أمورَك أستعجِب. اعتدنا أيضًا أن نَصِفَ المُثرثِرين الذين لا يُنجزون شيئًا بأنهم "بُق ع الفاضي"، والمأثور الفصيح يُوجِز ويُجمِل فيقول في هذا الشأن: ضجيجٌ بلا طَحن.

• • •

‎لا تُمثلُّ المَحافِلُ مُناسباتٍ سعيدةً أو مُفرِحةً بالضَّرورة؛ فقد تكون حزينةً بعض المرَّات كالحال عند تأبين أحدِ الراحلين مِن أصحاب القَّدر والقيمة، وقد تصبح صارمةً جَهِمة في مرات أخرى؛ كالحال على مائدةِ مُفاوضاتٍ سياسيَّة عَصيبة، وربما تغدو هزليَّة ضاحكةً ما وقع حدثٌ غير مَقصود؛ كأن يتلعثمَ مُتكلمٌ في جَمع مهيب، أو ينطقَ بعكس ما أراد؛ فتفضح ضميرَه زلةُ اللسان.

• • •

‎النوادي أماكنٌ حاضنةٌ شديدةُ الثراء، تضمُّ الأعضاءَ إلى جانبِ المُوظَّفين، وفِرقًا من اللاعبين وطواقمِ العُمَّال، وعشرات أو ما يزيد مِن مُقدمي الخدمات في المقاهي والمطاعم بالتوازي مع مئات وآلاف الزبائن؛ حتى ليعكسَ الحضورُ في مُجمَله نموذجًا مُصغَّرًا للحياة خارج البوَّابات. يَشتمل المَحفلُ الاجتماعيّ بطبيعته على براحٍ طيّب للتلاقي، وفُرصٍ مُتعدِّدة، وأشخاصٍ مُتنوعين؛ لكن الفَجوةَ الاقتصاديَّة التي راحت تتَّسِع وتتعمَّق بين الناسِ، واستحالت مع الوقت هُوَّةً سَحيقة بلا قرار؛ تبتلع الطِيبةَ وتقتل التعايُشَ وتُهدِر الوَسَع.  

• • •

‎عادة ما تحوي المَحافِلُ الإبداعية جُمهورًا خاصًا؛ فمن أصحاب أهواءٍ مُتفردةٍ أًصيلة، إلى دارسين ونقاد متخصِّصين، إلى معارف وأقرباء وأصدقاء مدفوعين بواجِب المُجامَلة والتشجيع، وآخرين ساقتهم الصُّدفةُ أو أخذهم الفضولُ لرؤيةِ جديدٍ يجهلون؛ وهؤلاء في الغالبِ قلة. تتحرَّك الكتلةُ الرئيسةُ من مَحفَل إلى آخر؛ يكاد أفرادها يَحفظون بعضَهم البعض ولو لم تكُن بينهم صِلة؛ إذ المزاج المُشترك يُقرب بينهم ويصنع حبلًا رقيقًا مِن الوِد.

• • •

‎حَضَرت اجتماعًا طريفًا لعدد مِن السَّيدات، يُمارِسن رياضة جماعية مُبتكرَة على نغمٍ صاخب وإيقاع سريع. يجمَعن في مَحفَلهن ما بين التمريناتِ العادية المألوفة والحَركات العنيفة، ويؤدين بين الحين والآخر وصلاتِ رَقصٍ شرقيّ؛ كلُّ واحدة بحَسب مهاراتها وقدراتها. الخَلطةُ ناجحةٌ إلى درجةٍ بعيدة، لا يتخللها مللُ الأداءِ النمطيّ المُتكرِّر، ولا عبءُ التدريبِ الشَّاق، كما أنها تُرضي الأذواقَ جميعَها، ولا تتعالى أو تستبعد اقتراحًا مهمًا بدا عجيبًا.

• • •

‎باتت المَحافلُ الجادَّة، المُتمتِّعة بقدر من الحِكمَة والرَّزانة؛ في حكم العُملةِ النادرةِ الشَّحيحة، لا سِيَّما والعالمُ تجتاحه فَوضى عارمةٌ، وتُزِيده المُعطياتُ المُتناقضة الفاقِدة للمَنطق تشوشًا وارتباكًا.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات