جيران - داليا شمس - بوابة الشروق
الإثنين 6 يناير 2025 10:35 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جيران

نشر فى : السبت 4 يناير 2025 - 7:35 م | آخر تحديث : السبت 4 يناير 2025 - 7:35 م

لا جديد تحت الشمس أو القمر أو النجوم. أعرف تقريبًا كل من يمر بالشارع.. الكناس، والبائع الذى يأتى للسكان بالخضراوات والأسماك من سوق الجملة، والعجوز التى تطعم القطط، والحارس الذى يأخذه الكلام عادةً لكن يختفى وقت الفعل.. لا أستطيع أن أهتم بمن لا يجد مكانًا فارغًا ليصف سيارته مع تزايد عدد المتاجر الموجودة بالحى، ولا بالمعارك التى تنشب فجأة، فالتجربة أثبتت أنها لا تطول وأن المتقاتلين يتعبون بسرعة أو يملون.
أجد نفسى أحيانًا بمحض المصادفة وسط شجار عائلى، لا ناقة لى فيه ولا جمل. الهواء يأتى بالأصوات العالية المتداخلة حتى شباك غرفة نومى. أسمع السيدة التى تنعت زوجها بما فيه وتبالغ فى وصفه، وتكيل الشتائم لعائلته فردًا فردًا بتلقائية شديدة لتفرغ انفعالها. أحاول تخمين شكلها حين ينزل بعض الأغراب من العقار المجاور، حيث استأجرت شقتها قبل حوالى عام، فلم أحظ بشرف مقابلتها لكى أربط بين الصوت والصورة. غريب أن تضطلع على بعض تفاصيل حياة الناس الشخصية دون سابق معرفة. فهمت مثلا من أحاديثهم المشتعلة أن الرجل يعمل فى دولة خليجية ولذا تندلع المعارك بينه وبين أفراد الأسرة الذين لا يستسيغون حضوره فى فترة الإجازات، خاصة الأم والابن الأكبر الذى اخشوشن صوته بسبب المراهقة.
• • •
أرسم على وجهى علامات عدم الاكتراث حتى لا يفتضح فضولى. لا توصِ حريصًا، فعندى مكان لأسرار العالم. أهوى جمع الحكايات واختزنها فى ذاكرتى، وأحيانا أنسج عناصرها غير المكتملة من وحى الخيال، لكن حين أرى الجيران أو تلتقى عيوننا أستقبلهم بابتسامتى المعهودة للغرباء. لا أعطى الانطباع أننى أعلم الكثير عن هذا الطبيب الذى عاد إلى وطنه حاملا خبرته وأشواقه ليعوض ما فات من عمره، ولا عن قصة الحب التى نشأت أخيرًا بين اثنين من الشباب وقد حطنى الله يوما على طريقهما، كما أن هناك دائمًا من يتبرع لكى يمدك بالمزيد من المعلومات.
علاقات الجيرة انخفضت لكنها لم تنقطع. هى علاقات عجيبة، المكان هو صلة الوصل بين مجموعة من الأشخاص، هم غرباء لكنهم قريبون. مثلهم مثل أفراد الأسرة، لم تخترهم لكنهم جزء من حياتك اليومية. يقعون فى منطقة رمادية، بين المعارف والأصدقاء والغرباء. نقول مثلا أن الجار الجيد هو من لا نشعر بوجوده، فهو لا يمثل إزعاجا لمن حوله. لكن هذا لا يمنع أن آخرين يلعبون دورا مختلفا.. قد يساعدونك عند البحث عن عامل ماهر ويتبادلون الخبرات معك، وقد يعرفون عنك بقدر ما تعرف عنهم فتكتشف أن بينكم أشياءً مشتركة وأن بوسعكم أن تكونوا أصدقاء، والعكس صحيح... فالهواء ينقل الأصوات باتجاههم أيضا وليس نحو شباكك وحدك. لأن علميًا الضجيج قد يصلك من خلال الهواء واتجاه الريح فنسمع صخب الجيران وأبواق السيارات وأعمال الحفر والموسيقى التى تنبعث من راديو أحدهم فنستنتج ذوقه الفنى، كما قد يعبر المبنى نفسه بأعمدته وجدرانه فنسمع من يمشى ليلا فى الدور العلوى ومن يحرك الأثاث أو يحاول هدم حائط والقيام بصيانة دورة المياه. وحين تطل المطابخ على المناور تصبح الأصوات أكثر وضوحا ورنينا، فمن تغنى وهى تطهو الطعام يسمعها «اللى فوق واللى تحت».
• • •
فكرة «اللى فوق واللى تحت» تجعلنا نتطرق إلى تصنيف اجتماعى واقتصادى للجيران، ففى داخل المبنى الواحد قد نقع على طبقات مختلفة: من يسكنون الدور الأرضى مثلا أو بالقرب من موضع صف السيارات تختلف درجتهم فى بعض البنايات عن أصحاب «الروف» والشقق المرتفعة، فهناك من يمكن أن نطلق عليهم «غير المرئيين»، وهم الأقل شأنا، الذين لا تسمح لهم ظروفهم أحيانًا بالمشاركة فى تكاليف أعمال الصيانة والتجديد إلى ما غير ذلك، ولا تفوح منهم رائحة العطور الفاخرة ولا يستخدمون المصعد.
على هذا النحو قد يعكس عقار واحد أنواعا مختلفة من العلاقات وطرق التعايش والتضامن، التى بدونها تكون الحياة مستحيلة أو غاية فى الصعوبة، وهو ما لم تتناوله الكثير من الدراسات الاجتماعية والفلسفية والنفسية، فى حين يعد موضوعا لا يقل أهمية عن إعادة التفكير فى علاقات الجوار بالنسبة للعلاقات الدولية، فبين المبحثين نقاط تشابه.
الدول أيضا لابد وأن تتعامل مع الجار أيا كان، كما أن أكبر عدو لحسن الجوار هو الاهتمام فقط بالمصلحة الذاتية، مع الفارق أن فى الحياة العادية يستطيع الفرد أن يغير جاره وينتقل للعيش فى مكان آخر، لكن مشكلة الدول أنها لا تستطيع تغيير موقعها على الخريطة. عليها أن تصبر على جار السوء، حتى وهى ترى السيناريوهات تتكرر عبر العصور. وفى كل مرة تكون بالطبع هناك اختلافات وعليها أن تتأقلم مع المعطيات والمستجدات، فالأيام لا تتكرر بحذافيرها، وكل عام يأتى بحصة جديدة من المفاجآت والأشياء غير المتوقعة. السنة الماضية لم تجلب لنا سوى ما أحزن القلوب وأدماها. هذا هو الوضع فى منطقة الجوار مع الأسف. نسمع الكثير، ونفهم الكثير، ونكتم الكثير.

التعليقات