فى كل مرة يتم الإعلان عن حفل لعازفتى الكمان المصريتين، أميرة ومريم أبو زهرة، أو عن حصولهما على جائزة عالمية هنا وهناك، أتأمل مسيرة العديد من عظماء الموسيقى الذين بدأوا حياتهم فى سن مبكرة. أتابع مشوار أميرة، الأخت الكبرى وهى من مواليد 2005، والثانية - مريم - التى تصغرها بثلاث سنوات، وهما تكبران أمامنا على المسرح، وأندهش من براعة الأداء الذى ينضج فى كل مرة.
أتوقف عند رحلة بعض كبار الأسماء التى ظهر نبوغها منذ الصغر، فمن المعروف أن أول مؤلفات موتسارت كانت وهو فى السادسة من عمره، وأن شوبان قدم حفلات خاصة وهو فى السابعة وأصدر أولى مقطوعاته فى العام نفسه، أما فرانز ليست فقد دوّن لحنه الأول وهو فى الثامنة واستطاع فى التاسعة أن يعزف كل أعمال باخ وموتسارت وبيتهوفن أمام جمهور من الأرستقراطية، ويبهر الناس بقدرته على الارتجال. ويمكننا بالطبع أن نذكر آخرين من سائر أنحاء العالم اتخذوا مسارات مماثلة فى فترات زمنية أحدث، منهم على سبيل المثال لا الحصر الملحن ولاعب البيانو الكندى أندريه ماتيو (1929-1968) الذى عزف مقطوعاته وهو فى السادسة بفندق ريتز كارلتون مونتريال وبثتها الإذاعة بعدها بسنة واحدة، وكذلك الليتوانية كلارا روكمور (1911-1998) التى كانت أصغر طالبة فى كونسرفتوار سان بطرسبورج، حتى إنها أجرت اختبارات القبول وهى تقف أعلى طاولة صغيرة لقصر قامتها.
• • •
تصدى العلماء منذ عشرينيات القرن الماضى لدراسة أسباب تميز هؤلاء والبحث فى وجود قواسم مشتركة بينهم، وتبين بالفعل أن هناك نقاطا محددة تجمعهم منها مثلا انتماؤهم لعائلات موسيقية أو ذات ميول فنية بصورة عامة، لكن على الأغلب يكون أحد الآباء عازفا@ أو ملحنا إلى ما غير ذلك. قاسم آخر مشترك هو ممارستهم للموسيقى الكلاسيكية، وفى أحيان كثيرة للعزف على آلتى البيانو والكمان، وهو ما يتطلب اكتساب مهارات معينة وبراعة تقنية لا يسهل تحصيلها إلا مع التمرين المكثف منذ الصغر. لكن بالطبع ينطبق الأمر نفسه على موهوبين شرقيين امتهنوا الموسيقى والغناء مثل أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش.
لاحظ أيضا الباحثون أن هؤلاء الموهوبين يتمتعون بقدرة عالية جدا على التركيز، تصل إلى ضعفى الأشخاص العاديين، وأنهم يحبون العمل على طريقتهم ووتيرتهم الخاصة، ويعذبهم حرص معلميهم أو المحيطين بهم على وضعهم فى قوالب أو محاولة إخضاعهم لقواعد تقليدية. وبالتالى حين يكون للأهل ميول فنية يساعدهم ذلك كثيرا، فهم يكتشفون موهبتهم فى الوقت المناسب وإلا قد تضيع مع الوقت أو يتم إهمالها.
الإبحار فى عقل نوابغ الموسيقى وسيرهم الذاتية، يوضح أنهم قد يعانون خلال الطفولة والشباب من كثرة التدريب أو من حرص الأهل الزائد على التزامهم بنظام صارم وقاسٍ بعض الشىء، لكن غالبا يطغى حبهم للموسيقى على مثل هذه المنغصات، لأن سر تقدمهم يكمن فى ولعهم الشديد وقدرتهم على التركيز والتعلم بسرعة. كما أثبتت الدراسات الحديثة أن الدماغ فى حالتهم يعمل بشكل فعال ومكثف وليس فقط الجزء الذى يحتوى على القشرة السمعية، المهمة لمعالجة الأصوات، وسرعة تواصلها مع القشرة الحركية، كما كنا نظن فى السابق، فعلى ما يبدو النموذج الترابطى هنا يعمل بصورة مختلفة بعض الشىء.
• • •
يمكننا مقارنة كل ما سبق بحالة العازفتين الشابتين، أميرة ومريم، اللتان صاحبتا الأوركسترا الفيلهارمونية الملكية، يومى الجمعة والسبت (15-16 نوفمبر)، فى المتحف المصرى الكبير، بقيادة المايسترو البريطانى ستيفن بيل.
العازفتان تنتميان لعائلة فنية، فقد ولدتا لأب مصرى وأم مجرية احترفا العزف على البيانو فى الخارج، وجدهما هو الممثل القدير عبد الرحمن أبو زهرة، وقد بدأتا فى تعلم العزف على الكمان فى سن الرابعة. أميرة شاركت كعازفة وهى فى السابعة مع أوركسترا المكسيك السيمفونى وحصدت عدة جوائز عالمية فى مسابقات الموسيقيين الشباب، وهى تدرس حاليا بجامعة الموسيقى وفنون الأداء بفيينا. أما مريم، فقد فازت الشهر الماضى بالجائزة الأولى فى مسابقة فيوتى الدولية للعزف على الكمان، وحصلت على جائزة التميز من لجنة التحكيم.
برنامج حفلى المتحف اشتمل على مقطوعات كلاسيكية من القرن التاسع عشر لريمسكى كورساكوف وتشايكوفسكى وإرنست شوسون وبابلو ساراسات، معظمها ذات طابع حر مثل «الكابريشيو» و«الفانتزى»، يترك مساحة لإظهار براعة صوليست الكمان وتفاعله مع الأوركسترا. أما الجزء الثانى من الحفلين فقد ركز على موسيقى أفلام ومسلسلات، حديثة نوعا ما، لاقت نجاحا كبيرا، وذلك لجذب نوعية مختلفة من الجمهور، إذ ضمت أعمالا لمؤلفين بارزين فى مجال السينما مثل الألمانى هانز زيمر والأمريكى جون ويليامز، اللذان أبدعا موسيقى «هارى بوتر»، و«قراصنة الكاريبى»، و«حرب الكواكب»، و«جلاديوتر» أو المصارع، و«فورت جامب»، إلى ما غير ذلك.
كلما ننظر إلى مثل هذه المواهب نفكر فى العدد الكبير الذى لم ير النور ولم يذق طعم الشهرة بسبب عدم وعى وانتباه الأهل أو إهمال منظومة التعليم عموما أو تشدد المجتمع، فلولا هذه العوامل لكنا احتفينا واستمتعنا بمعجزات وأعمال مبتكرة لا حصر لها، فلنتذكر مجددا أن والد موتسارت كان ملحنا وكذلك أندريه ماتيو الذى لقب بموتسارت الكندى.