رب صدفة.. - داليا شمس - بوابة الشروق
السبت 28 سبتمبر 2024 10:22 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رب صدفة..

نشر فى : السبت 28 سبتمبر 2024 - 7:35 م | آخر تحديث : السبت 28 سبتمبر 2024 - 7:35 م

نتابع مع الفنان التشكيلى محمد عبلة رحلته خلال سنوات التكوين فى سبعينيات القرن الفائت من خلال كتابه الصادر أخيرًا عن دار الشروق «مصر يا عبلة». رحلة فنان ما زال يتلمس طريقه ويبحث عن المجهول ويمسك خيوطه بطفولة وحب. هى ليست سيرة بالمعنى التقليدى بل اختار أن يروى سلسلة من الحكايات بطرافة وفطنة تعودنا عليهما فى لوحاته. يكتب ببساطة، كما يتكلم، عن ناس وضعتهم الصدفة فى طريقه، بعضهم من المشاهير والشخصيات العامة وبعضهم مغمور أو هامشى، أصدقاء وزملاء وأحيانًا مجرد عابرين. ومن خلال وصفه لما يحدث وما يجمع كل هؤلاء يقدم شهادة على العصر، على تحولات المجتمع المصرى فى ذلك الوقت وعلى بداية ظهور الاتجاهات الإسلاموية وتراجع اليسار والفكر التقدمى، خاصة فى ظل سياسات الانفتاح وعدم ترك مساحة لأى لاعبين آخرين أو أى أنشطة ثقافية مختلفة قادرة على ملء الفراغات. نتنقل معه بين المجموعات المختلفة التى انتمى إليها أو خالطها، هم مثله يبحثون عن المجهول فى مطلع حياتهم: من ارتدى ملابس برتقالية وسار وراء «جورو» بوذى يدله على طريق الجنة، ومن انشغل بتعاليم البهائية، ومن وجد ضالته فى الدعوة الإسلامية وقرر تحريم رسم النساء وإباحة تكسير رءوس التماثيل فى كلية الفنون كما فى الحدائق.
وحين يتحدث عن كل هؤلاء لا يطلق الأحكام، كما لا تحمل حكاياته فى مجملها شائبة مرارة أو لمحة حنين إلى الماضى، بل هناك دائمًا خفة فى إعادة ترتيب الأشياء مثلما يحب وكما يصرح فى كتابه: «إننى أنتمى إلى هذا النوع من الحياة الخفيفة جدا، فى تلامسها مع قسوة الواقع». جاءت هذه الجملة فى خضم وصفه لحركة المراكبية الذين يعملون على «صندل» يستخدم لنقل البضائع والمنتجات بين شمال وجنوب مصر، وقع عليه بمحض المصادفة أثناء عودته من رحلة البر الغربى بالأقصر وقضائه شهرًا كاملًا هناك بحثًا عن فكرة لمشروع تخرجه فى كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية. كان قد يئس من إيجاد موضوع مناسب، ووجد نفسه عاجزًا عن أن يأتى بجديد أمام قوة وجمال ما رسمه المصريون القدماء على جدران مقابرهم، شعر بأنه يتطفل عليهم مثله مثل الخواجات، فى حين من المفترض أن يتعامل معهم على أنهم أهله وهو منهم. لذا كان المخرج الوحيد من هذه الورطة هو مشهد العمال على الصندل المحمل بالطوب الأحمر الذى وقف أمامه مشدوها، فقد رأى بعينيه رسوم مقبرة "راخما رع" تتحول إلى شخوص من لحم ودم. شده إحساسهم العالى بالحرية وكيف أنهم جزء لا يتجزأ من عالم كامل، يسيرون على إيقاعه، لكن مع الاحتفاظ بحياتهم وتفاصيلهم البسيطة. وهو ما ألهمه لوحاته التى نالت نجاحًا كبيرًا وجعلته الأول على دفعته بتقدير جيد جدًا، رغم معارضة عميد الكلية وقتها الفنان حامد عويس الذى حاول التدخل لتغيير النتيجة بسبب خصومة بينهما. ثم تم عرض اللوحات بعد فترة فى المعهد الثقافى الإسبانى بالقاهرة ولاقت إعجابًا بالغًا كان سببًا فى حصوله على منحة دراسية إلى مدريد دون سعى منه. الصدفة أيضًا تدخلت فى إقامة هذا المعرض الفردى الأول الذى يصف تفاصيله فترتسم الضحكة على وجوهنا.
• • •
خلال قضائه الخدمة العسكرية فى القاهرة، قابل عبلة المدرس الذى كان يتعلم على يديه اللغة الإسبانية فى الإسكندرية، وأخبره هذا الأخير بأنه صار مديرًا للمركز الثقافى لبلاده واقترح عليه إقامة معرض له، وقد كان.. الفنان الشاب واقفًا وسط الزوار وكبار أسماء عالم الثقافة مرتديًا بدلة واسعة اقترضها من أخيه، خائفًا من أن يبيع لوحاته فلا يراها مجددًا، ولا يعرف كيف يحدد سعرها، حينها لجأ إلى نصيحة الفنانين بيكار وحامد ندا كى يساعداه، وقال له بيكار بمنتهى الظرف ليقنعه بالبيع: «أنت استمتعت برسمها، وهو (من يشترى) يستمتع برؤيتها، لكن اسال الأستاذ حامد ندا... سيقول لك بكم تبيعها».
فى اليوم التالى، ذهب للقاء بيكار فى منزله، فانفتحت أمامه طاقة نور وأوراق وألوان، أخذه معه إلى عالمه السحرى وعزف البزق فى حضرة زوجته. وهو الموقف الذى يتكرر طوال الكتاب مع العديد من «أولياء الفن الصالحين» كما يسميهم. استقبله سيف وانلى دون سابق معرفة، وفتح له صندوق الذكريات وناقشه فى أعماله وعرفه على عميد كلية الفنون، كامل بك مصطفى، الذى قام بالتأشير على ملفه: «تقبل أوراقه لأنه فنان»، ضاربًا عرض الحائط باللوائح التى لا تسمح للطلاب بالالتحاق بالكلية بعد أشهر من بدء الدراسة ودون الرجوع إلى مكتب التنسيق. كان عبلة قد انتظم فى كلية الفنون التطبيقية، لكنه لم يستسغ كثرة المواد النظرية والهندسية، وأراد أن يرسم فتوجه تلقائيًا إلى فنون الإسكندرية.
ربطته علاقات لطيفة بأسماء نحسده على مرورها فى حياته مثل شادى عبدالسلام وحسن فتحى وعبدالبديع عبدالحى وماهر رائف وكمال الملاخ... القائمة طويلة والصدفة دائمًا خير من ألف ميعاد، لكنها على الأغلب صدف تنبع فى داخلها من السعى والرغبة والمكتوب وقانون الجذب. سافر مثلًا إلى بغداد خلال صيف عام 1976 فتعرف على أهلها الرائعين ونسج الصداقات ووقع على محل فاضل، أحد أمهر صناع الأعواد فى العالم العربى. وخلال سيره فى أحد شوارع الإسكندرية نادته سيدة مجهولة شقراء اتضح أنها صديقة قديمة لصلاح طاهر وأطلعته على لوحاته الأولى بالباستيل التى تركها لديها،... اشتغل بأعمال مختلفة لتوفير احتياجاته المادية، فوالده كان معترضًا على توجهه للفن وأراده أن يلتحق بالكلية الحربية، فتعلم النقاشة ولصق ورق الحائط ورسم الخرائط للطلاب وتجارة قطع غيار السيارات إلى ما غير ذلك.
• • •
يقابل محمد عبلة من يقابل من الناس الذين يحبهم على علاتهم ويأنس بهم. يستمتع بكل تفصيلة وخطوة، يتأقلم بسهولة مع المتغيرات، ويضبط نفسه وهو يقلد أباه فى كثير من الأمور فقد ورث عنه جلده وولعه بالمغامرة والسفر. شىء ما يجذبه إلى الحكايات ويجذبها إليه، وهو سر سحر الكتاب وسر عالمه الشيق الذى لازال يشبه حواديت جدته لأبيه بكل كائناتها الأسطورية، «سته زكية» جعلته يأكل قلب الذئب وحده وهو فى الصف الخامس الابتدائى، فانطلق بعدها فى الحياة دون خوف.

التعليقات