الراية السوداء - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 12 سبتمبر 2024 1:38 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الراية السوداء

نشر فى : السبت 17 أغسطس 2024 - 7:25 م | آخر تحديث : السبت 17 أغسطس 2024 - 7:25 م

رفع الرايات السوداء بطول الشاطئ على مسافات متقاربة ومنع المصطافين من النزول إلى البحر منذ الصباح الباكر بسبب ارتفاع الأمواج عن الحد الطبيعى، إضافة إلى العَلم الذى وضعه أعلى البرج الحديدى حيث يوجد مقره الرسمى وكشك الشماسى. محمد «قلب الأسد» ببشرته الذهبية وابتسامته الواثقة يعطيك دائما الإحساس أن الدنيا بخير وأنه قادر على تحقيق المعجزات ومسيطر، لكن بكل ود وحبور. للصغار هو صاحب مفتاح البحر، يغلقه حين يقرر ويتركهم يلعبون عندما يسمح بذلك.

التزم بالتعليمات الرسمية التى جاءت كرد فعل لتحذيرات العالِم الهولندى الذى تنبأ باحتمالية حدوث «تسونامى» وزلازل بحوض البحر الأبيض المتوسط ربما ينتج عنها تيارات شديدة وأمواج عالية. وكعادته بذل ما فى وسعه للحفاظ على الأرواح، فهو المُنقذ المُعين لهذه المنطقة من الساحل وقد أمضى هنا سنوات طويلة رأى خلالها العديد من التغيرات الاجتماعية والبيئية. شاهد العمارات تحل تدريجيا مكان الفيلات الحجرية وأشجار التين، كما لاحظ دون شك تبدل نمط السكان ومرتادى الشاطئ، فمنذ عقدين تقريبا بدأت مرحلة ما بعد مارينا، ثم مرحلة ما بعد العلمين، وصار «البلاج» الذى يحرسه ضمن العشوائيات بعد اتجاه زبائنه القدامى ناحية الشمال أكثر فأكثر.
غمس قدميه فى الماء ليختبر قوة السحب، فلم يجد ما يقلقه، لكن «الحرص واجب». أعادت عمليات الإنقاذ وحالات الوفاة التى اقترب منها بحكم عمله صياغة علاقته بالموت، وهو الذى لم يخش البحر قط. لم يكن الخوف من البحر شيئا مألوفا بالنسبة لأهل مدينته السيناوية، فمن ولد هناك يسبح، وليس أمام الأطفال سوى الشاطئ للمرح والتسلية.. المتنزه الوحيد للكبار والصغار.
• • •
تعَلّم أن يصافح البحر صباحا، وفى الليل ينام فى العراء ويراقب حركة المد والجزر أو المدى الفاصل بين البحر والسماء حين يموت القمر ويغرق فى المياه المالحة، ثم يغرق هو فى سبات عميق. يتنفس الملح الخفيف الذى يحمله الهواء، وحين يصبح السواد حالكا يشعل ورفاقه المصابيح اليدوية أو النيران ليلعبوا «الكوتشينة». تعامل دوما مع البحر كصديق لا يمكن أن يخذله، يلقى بنفسه فيطفو سالما غانما، وعلى الأغلب لم ينزل إليه ورجع خائبا منذ أن التحق بوظيفة «المنقذ» فى السواحل الشمالية، بعد أن غادر سيناء مضطرا.
يقف محدقا فى الشاطئ. يذكره صوت الموج بكل ما مر به. استدعت الرايات السوداء أسباب رحيله عن مسقط رأسه. رفض والده الامتثال لأمر القضاء العرفى وإيفاء ما عليه من حقوق وواجبات فرفع المجلس القبلى الراية السوداء، ومعنى ذلك تسويد وجه الشخص لعدم التزامه بحكم الجماعة التى قضت بسواده ومن يتبعه من الأقربين حتى الجد الخامس. عندئذ كان البحر هو الحل، وقع على إعلان يطلبون فيه منقذا معتمدا وحاصلا على شهادة سارية ليكون مسئولا عن تأمين أحد الشواطئ بالقرب من الإسكندرية، والوظيفة تمنحه سكنا وراتبا وتكاليف المواصلات للعمل، أما الأكل فعليه... لم يتزوج، ولم يرد أن يأتى بأبناء إلى هذا العالم فيَقتلون أو يُقتلون، لكنه سافر لفترة وجيزة من حياته إلى العراق مثله مثل غيره. لم يكن واثقا منذ البداية أنه سيرجع غنيا، لكنه أصر أن يجرب.
• • •
هذه المرة أيضا رحل عن العراق بسبب الرايات السوداء. كأنها تلاحقه حيثما ذهب. ظهرت أعلام داعش لأول مرة هناك فى يناير 2007. تصارعت الرايات المختلفة: الألوية البيضاء لواحدة من الميليشيات الشيعية والأعلام الملونة لقوات البيشمركة الكردية التى يتوسطها قرص الشمس وبالطبع الأسود علامة الجهاديين والدواعش... فَهمَ أنه لا عيش له هناك، فالراية السوداء للمنقذ هى علامة الخطر، تلك التى ارتبطت فى مخيلته كطفل بشعار القراصنة، الذى رسمت عليه جمجمة أو عظام متقاطعة، وبفكرة التمرد على الدول والسلطات البحرية. حاول من باب العلم بالشىء أن يستوعب الفروقات بين الفصائل والجماعات المختلفة وطبيعة المنظمات التى تمارس العنف المسلح لأسباب سياسية. سمع خلال سفره بيت شعر لأبى مظفر الأبيوردى الذى عاش فى أصفهان فى القرن الخامس الهجرى، يقول: «والراية السوداء يخفق ظلها... والرعب يطلع، والتجلد آفِلُ». أحس بهذا الرعب الذى وصفه الشاعر الفارسى ولم يتردد فى الهروب إلى سوريا ومنها عبر البحر المتوسط إلى مصر، ليرجع إلى منطقته الآمنة حيث كشك الشماسى والناس التى صاحبها منذ زمن. لكنه فى هذه الأثناء تعلم الكثير وخاض دون قصد فى السياسة. غضب من زعمِ بعض الأحزاب والتنظيمات «الإسلامية» المعاصرة مثل حزب التحرير وتنظيم القاعدة وداعش أن الرايات التى ترفعها هى «راية العُقَاب» الخاصة بالرسول التى كانت مصنوعة من الصوف الأسود ومكتوب عليها «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وحملها على بن أبى طالب خلال غزوة بدر كما جاء فى بعض الروايات.
• • •
قرأ فى الصحف أخيرا أن إيران رفعت راية الثأر الحمراء فوق مسجد جمكران على مشارف مدينة قم إثر اغتيال رئيس المكتب السياسى لحركة حماس، إسماعيل هنية، وقد كتب عليها «يالثارات الحسين» والتى تُفسَر عادةً على أنها تعهد بالانتقام لخسارة فادحة، مثلما حدث فى مرات سابقة، نسبةً للثأر للحسين بن على الذى قُتِل فى موقعة كربلاء. تذكر «محمد قلب الأسد» زيارته للعتبة الحسينية فى كربلاء بالعراق وكيف ترفرف على قبر الإمام طيلة السنة راياتان حمراوتان لأنه مات مقتولا ولم يؤخذ بثأره، عدا شهرى محرم وصفر، إذ يتم استبدالهما باللون الأسود لأن الأول شهر وفاته والثانى شهر عودة رءوس الشهداء ودفنها مع الأجسام.
يتلو الفاتحة أمام البحر رافعا يديه إلى أعلى، فهو يحب سيدنا الحسين ومتعلق به مثل غالبية المصريين الذين يحملون له معزةً خاصة. يزور مقامه فى كل مرة يذهب فيها إلى القاهرة التى تحتفل به ثلاث مرات فى السنة، يوم مولده فى شعبان، واستشهاده فى محرم، ووصول رأسه الشريف إليها من عسقلان أثناء الحملة الصليبية فى ربيع الآخر، «فهو الكريم ابن الكريم.. وجده خير الأنام» كما تعود أن يردد مع المنشدين، ملتمسا لعون «سيد الشفعاء» خلال هذه الأيام التى رفعت فيها المنطقة بأسرها الراية السوداء.

التعليقات