حدائق المقاومة - داليا شمس - بوابة الشروق
السبت 5 أكتوبر 2024 11:04 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حدائق المقاومة

نشر فى : السبت 5 أكتوبر 2024 - 7:30 م | آخر تحديث : السبت 5 أكتوبر 2024 - 7:30 م

من هزيمة إلى نصر، ومن تمرد إلى خوف، تواصل بعض أشجار المنطقة ونباتاتها الاحتفاظ برمزيتها عبر التاريخ، كأننا نقف ضائعين وسط حدائق الأحزان ومتنزهات المقاومة. نتهاوى عند أصل شجرة أرز أو نستظل تحت شجرة زيتون معمرة تضرب بجذورها فى الأرض كتلك التى وصفها الشعراء حين جعلوها وطنا بكل أبعاده. أخيرا، مع تأجج الحرب فى لبنان، صار الناس يؤكدون تضامنهم من خلال مشاركة الرسومات على وسائل التواصل الاجتماعى، مزيلة بعبارات حول صمود غصن الزيتون الذى لا ينحنى وصلابة الأرز الذى لا ينكسر. تكاثرت الشعارات بالإنجليزية والعربية، وتكررت معانيها ورموزها «النباتية» كى تعبر عن لُحمة الأمة فى وقت الشدائد والأزمات، كما لو كانت من أجل التذكرة بأهمية الوقوف معًا فى وجه عدو غادر. وتلك هى وظيفة الرموز فى مثل هذه الأيام الصعبة، أن تجسد فكرة الأيقونات الثقافية التى تخاطب الجميع وتستدعى هويتهم المشتركة كى يحتشدوا تحت مظلتها.
• • •
الأشجار امتلكت دومًا طاقة سحرية تسمح باختزال المشاعر والدلالات، لذا تم توظيفها فى الحروب واستغلت رمزيتها منذ قرون. وفى حالة الصراع العربى-الإسرائيلى، لطالما حاول الطرفان أن يجذبا الطبيعة إلى جانبهما، ومن هنا كان التأكيد على رمزية النباتات لكسب نزاع الهويات. منذ قيام الحركة الصهيونية، سعى القادمون الجدد إلى أرض فلسطين أن يعيدوا تشكيل المشهد وترتيب الزراعات وفقا لتوصيفاتهم التوراتية ولتصورات اليهود الأشكناز من ذوى الأصول الأوروبية عن الغابات. جاءت مشاريعهم الاستيطانية أحيانا على هيئة حدائق تلمودية، أرض خضراء مفتوحة يقوم الاحتلال بتوسيعها على حساب أصحاب البلد الأصليين فتتغير معالم المكان. تتم إزالة الأشجار كى يتسنى لهم الاستيلاء على الأرض، ثم تزرع بحسب إرادتهم نباتات تعبر عن تعددية سكان الدولة العبرية، بما أن يهود الشتات قد أتوا من كل حدب وصوب. لم يكن بعضهم على دراية فى بداية الأمر بطبيعة الأشجار التى تنمو فى حوض البحر الأبيض المتوسط وظلوا هكذا ربما حتى ستينيات القرن الفائت، خاصة هؤلاء الذين تولوا مسئولية الصندوق القومى اليهودى الذى تأسس عام 1901 كوسيلة لجمع الأموال من اليهود وشراء الأراضى فى فلسطين العثمانية ولإقامة المستعمرات لاحقا تحت الانتداب البريطانى.
ومع إقامة الدولة الإسرائيلية عام 1948، عمد الصندوق إلى زراعة 240 مليون شجرة تتماشى مع خططه الخاصة لتبديل ذاكرة بأخرى، تم محو 86 قرية فلسطينية وحلت محلها مساحات غابات شاسعة تلغى آثار الماضى، فطن الفلسطينيون إلى ذلك فقرروا إحراق هذه الغابات مع اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987. وفى المقابل، أطلق الصندوق القومى اليهودى حملة لزرع شجرة جديدة أمام كل شجرة يتم حرقها، وقاموا باقتلاع 160 ألف شجرة زيتون فى الضفة الغربية بين عامى 1987 و1993، لأنه من المعروف أنه حيثما توجد أشجار اللوز والتين الشوكى والزيتون كانت توجد قرية فلسطينية، فالتين الشوكى أو الصبر كما يسميه الفلسطينيون كان يستخدم لتسييج الأراضى وهو لايزال يرمز إلى فكرة الصمود، جنبا إلى جنب مع أشجار الزيتون التى يصل عمر بعضها إلى خمسة آلاف عام. قال فيها الشعراء ما قالوا وعلى رأسهم محمود درويش الذى حازت شجرة الزيتون فى أعماله حضورا لم يبلغه غيرها من الأشجار، فهى «لا تبكى ولا تضحك، هى سيدة السفوح المحتشمة بظلها تغطى ساقها، ولا تخلع أوراقها أمام العاصفة. تقف كأنها جالسة، وتجلس كأنها واقفة».
• • •
انشغل الجانب الفلسطينى برمزية أشجاره ليعلنها صريحة: «على صدوركم باقون»، وانتشرت رسومات أوراق السرو والبرتقال اليافاوى والبطيخ الذى يحمل ألوان علم فلسطين. سمح البطيخ لأهل البلاد الذين مُنعوا من رفع العلم أن يعبروا عن هويتهم منذ العام 1967، واستُخدم بكثافة خلال الانتفاضة الأولى، ثم عاد رمز البطيخة إلى الصدارة مع تصاعد العنف فى مدينة القدس الشرقية عام 2021 بسبب محاولات إخلاء بعض البيوت القديمة ونزع ملكيتها لصالح مستوطنين يهود. ومنذ أكتوبر الماضى، صار «البطيخ» ملاحقًا على مواقع التواصل الاجتماعى التى مارست مختلف أنواع الحجب والمنع على المحتوى الخاص بفلسطين، بدلناه أحيانًا بثمار الفراولة على سبيل التمويه، وابتدع الشباب وسائل مبتكرة للهروب من الحظر واستمرار السردية الفلسطينية. وفى الآونة الأخيرة، انضمت شجرة الأرز إلى قائمة رموز دول الجوار المكلومة. بلد الفرح اتشح بالسواد. الأرزة الشهيرة التى نجدها فى كل شوارع بيروت، على واجهات البنوك والمدارس ومحال التذكارات السياحية وخلافه، صارت تثير الشجون، فقد كانت دومًا عنوانًا لاستقلال لبنان ووحدته وخضاره.. خشب صلب ينمو فى إباء فوق المرتفعات منذ آلاف السنين، يعطر الجبل بشذاه، يشبه هذا الشعب المحب للحياة رغم قسوة ماضيه وحاضره.
فى خضم الأحداث، تساءلت صديقة عن الشجرة التى ترمز للسودان، هل هى السنط أم التبلدى أم الشهاب؟ ورحنا نقلب سويًا فى تاريخ أشجار المنطقة ورمزياتها، فى انتظار دور البلد القادم، ذلك الذى سنضع صورة أشجاره على البروفايل ونحيطها بإطار أسود رفيع ونبكى شعبه الجريح.

التعليقات