الأخلاق.. رحلت - محمود عبد المنعم القيسونى - بوابة الشروق
الأربعاء 8 يناير 2025 1:29 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأخلاق.. رحلت

نشر فى : الإثنين 6 يناير 2025 - 4:55 م | آخر تحديث : الإثنين 6 يناير 2025 - 4:55 م

فى طفولتى كنت أتابع الأسلوب الأدبى والأخلاقى فى المعاملات اليومية بين أفراد أسرتى وفى التعاملات مع الأغراب، فكنت أشاهد المرحوم والدى عندما كان يخاطب شقيقته الأكبر منه كان يلقبها بأبلة، ويتعامل معها باحترام شديد كما كانت ابنة عمى تلقب ابن عمتها بأبيه، ولم أسمع طوال سنين حياتى أى كلمة نابية أو مهينة داخل جدران منزلنا أو منازل أقاربنا، وتعلمت عندما أدخل على المرحوم الوالد كنت لا أجلس إلا لو أذن لى، فإذا أذن لى، لم يحدث أن جلست على راحتى ووضعت ساقا على الساق فكان احترامه مقدسا.

• • •

شاهدت المرحوم والدى فى وزارة المالية بلاظوغلى المبنى القديم، وكان أصغر وزير يتولى منصب وزارى فى مصر فى ذلك الوقت، فقد كان عمره أربعة وثلاثين عامًا، كان عندما يدخل عليه ساعى المكتبة صباحًا ليحيه ويسلمه عددًا من المكاتبات، كان والدى يقف ليرد تحيته بالمصافحة. وأذكر عام ثمانية وخمسين، كان الوالد فى هذا الوقت يتولى منصب نائب رئيس مجلس الوزراء بوزارة الوحدة مع سوريا، دعانى لحضور مناقشة رسالة دكتوراه، وكان عمرى فى ذلك الوقت ستة عشر عامًا فلبيت الدعوة لشغفى وحبى للمراقبة والتعلم، وجلست فى القاعة المخصصة بكلية تجارة القاهرة، والتى كان والدى يشغل منصب أستاذ غير متفرغ بها.

كانت القاعة مكتظة عن آخرها ثم عمّ الهدوء بالقاعة ودخل موكب من سبعة أشخاص يرتدون الأرواب السوداء الوقورة ووسطهم المرحوم الوالد وصعدوا للمنصة وكادوا أن يجلسوا على المقاعد لولا أن تقدم الوالد ليافطات الأسماء الواقعة على الطرف الأمامى للمنضدة، وأخذ يتفحص بهدوء كل اسم ثم قام بنقل يافطة اسم كان موقعها على طرف المنضدة ليضعه فى الموقع الوسط، والذى كان مخصصًا له، ونقل اسمه إلى طرف المنضدة، وعندما حاول الأساتذة إقناعه بالعودة لمكانه على رأس الممتحنين صمم بشدة على تصرفه، ثم قال: هذا أستاذى الذى علمنى كيف أجلس أنا فى الوسط وهو فى الطرف، مكانه دائمًا فى المقدمة والموقع المميز، وانتهى الموقف عند هذا الحد وجلس الجميع لمناقشة مقدم الرسالة، وكلما رغب الوالد فى توجيه سؤال لصاحب الرسالة كان ينظر بأدب شديد إلى أستاذه الجالس فى الوسط، ويقول: بعد إذن أستاذى الدكتور وهيب مسيحه ثم يلقى بالسؤال.

• • •

بعد مغادرة الكلية وأثناء عودتنا لمنزلنا ذكر لى أن الدكتور وهيب مسيحه كان له الفضل فى تدريبه وتعليمه، وهو ما يوجب الاحترام والتبجيل إلى الأبد. وتقدم بى العمر ورزقنى الله بأولادى وغطى الشيب رأسى، وفى يوم حدث سوء فهم وأحيط والدى بمعلومة غير صحيحة عن إجراء قمت به فدخلت مع أولادى فى زيارة له بمصر الجديدة، وكان يجلس بالحديقة يقرأ الصحف، وبعد تقبيل أحفاده نظر لى بغضب شديد ووبخنى على ما فعلت، كانت صدمة لى والذى حدث أن الدموع انهمرت من عينى بسرعه لخجلى وحزنى على إغضابه وأمام أولادى. قمت بسرعة أوضح له ما حدث وأدافع عن نفسى ولم أجلس إلا عندما أقنعته ببراءتى وعدم ارتكابى هذه التهمة، فمجرد إغضابه كان فعلًا لا أتخيله، ومر يومان بعد ذلك، وأنا فى شدة التأثر من هذا الموقف فيعلم الله مدى حبى واحترامى لهذا الرجل القدوة، رحمه الله.

• • •

من القصص التى تأثرت بها قصة والد الدكتور خليل عبدالخالق، طبيب الأطفال المشهور، عندما كان وسط مراسم زفافه ويجلس بجوار عروسه بالكوشة وقاعة الفرح مزدحمة بالمدعوين والموسيقى تصدح، ودخل القاعة رجل صعد للكوشة ثم همس فى أذن العريس بعدة كلمات فقام العريس الطبيب فورًا وغادر القاعة ليختفى أمام اندهاش الجميع، ليكتشفوا فى اليوم التالى أن أحد مرضاه كان يعانى من آلام مرضية مبرحة، وكان فى حاجة له فلبى النداء لأن هذا واجبه ورسالته، وكانت عروسه متفهمة لهذا الموقف، لأنها على علم كامل أنها تتزوج طبيبًا رسالته إنسانية قبل أى شىء.

• • •

تربطنى علاقة حميمة مع السيد الدكتور إبراهيم بدران وأسرته فهو والدى الروحى، وكنت أتردد كثيرًا على مكتبه بالمستشفى مساء وألاحظ يوميًا وقبل دخوله غرفه العمليات أنه كان يصلى بخشوع شديد ثم يتوكل على الله، ويدخل لإجراء الجراحات المكلف بها، وبابه دائمًا مفتوح للبسطاء وغير القادرين، كان يوليهم نفس مستوى الاهتمام الذى يوليه لمرضاه من القادرين.

• • •

أذكر أننى قررت زيارة شيخ الأزهر الأسبق العالم الجليل المرحوم الدكتور عبدالحليم محمود، فى مكتبه لرغبتى فى توجيه سؤال مباشر كنت فى أشد الحاجة لمعرفة الرد عليه من شخص متبحر وفقيه فى الدين مثله. وكانت تربطه صلة صداقة حميمة مع المرحوم والدى فخرج سكرتيره وقال لى أن معه وفدًا من جزر بالمحيط، لكنه سيقابلنى، وفعلًا دخلت عليه فحيانى وطلب إحضار كرسى صغير، ووضعه بجواره خلف مكتبه، وطلب منى الجلوس، واستأذن من الحاضرين ثم استمع إلىّ باهتمام شديد، كان رده فى منتهى البساطة والعلم والحكمة مما أثلج صدرى وأراحنى ووضع دستورًا فى حياتى مرتبطًا بهذا الأمر ألتزم به حتى اليوم.

• • •

اليوم.. أين هذا الأدب؟ أين كل هذة الأخلاق؟ أين كل هذا الاحترام والواجبات الاجتماعية الأساسية؟ لقد اختلط الحابل بالنابل واختفى قاموس الأدب والسلوك الاجتماعى الحميد ليحل محله قاموس الانحطاط الخلقى فى كل شىء وفى كل مجال، واختفت تماما القدوة الحسنة، فاليوم الألقاب التى كانت رموزا للاحترام والتقدير انقلبت إلى تعبيرات مهينة وساخرة حتى الألقاب العلمية مثل الدكتوراه أصبحت لا قيمة لها بعد أن تغلغل مئات من الحاصلين على هذا اللقب فى أربع وعشرين ساعة ومقابل مبالغ نقدية معروفة.

اليوم أراقب من يقاتلون دون رحمة للوصول لمقاعد قيادية حيث الأضواء مهما كان الثمن وبأى أسلوب ممكن، وعندما يتحقق المطلوب تكون النتيجة المؤكدة الهبوط المزرى لما يرمز له هذا المقعد، وللأسف كل المقاعد حوله وبدون ذنب منهم والحال مستمر ودائمًا يطلب منى الصمت والاستسلام للواقع وحال الدنيا، وهو أمر مستحيل بالنسبة لجيلى الذى تربى وسط عمالقة مصر، الأحياء حفظهم الله فهم يشرفوننا، والأموات رحمهم الله وكتب لهم جناته لقد شرفونا.

• • •

المثل البلدى يقول القوالب نامت والأنصاص قامت، وداعًا للخلق والاحترام.

محمود عبد المنعم القيسونى المستشار السابق لوزير السياحة ووزيرة البيئة
التعليقات