تحوّلٌ سوري نحو اقتصاد حرٍّ! - سمير العيطة - بوابة الشروق
الأربعاء 8 يناير 2025 7:42 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تحوّلٌ سوري نحو اقتصاد حرٍّ!

نشر فى : الثلاثاء 7 يناير 2025 - 6:45 م | آخر تحديث : الثلاثاء 7 يناير 2025 - 6:45 م

تستحق بعض الإجراءات، التى أطلقتها حكومة تيسير الأعمال الحالية فى سوريا سريعًا، على الصعيد الاقتصادى، بعض النقاش. هذا خاصّةً وأنّ الأحوال المعيشيّة فى شتّى أنحاء البلاد متدهوِرة منذ زمنٍ طويل والنشاطات الاقتصادية متدنيّة إلى أقصى الحدود. نقاشٌ على الرغم من ضرورة التفهّم من أنّه لا يُمكِن الحكم على سياسات مضى عليها أقلّ من شهر مقابل تركة ثقيلة لسنينٍ وعقود. كما لا معنى لرسم طموحات كبيرة دون تبيان الاستراتيجيّات للوصول إليها والأولويّات التى تجب معالجتها.
لقد خلقت التصريحات حول أنّ الاقتصاد فى سوريا سيكون اقتصادًا حرًّا وأنّه سيتمّ ضمان تأمين الكهرباء والمحروقات للمعامل سريعًا كثيرًا من الارتياح. ارتياحٌ ترافق مع الإعلان عن إلغاء رسوم جمارك الاستيراد وانفلات بضائع البلدان المجاورة، خاصّةً تركيا، فى الأسواق بأسعارٍ أكثر تنافسيّة بكثير من البضائع المحليّة الذى ما زال إنتاجها يعانى من صعوبات المرحلة السابقة. وبرز السؤال عمّا هو المقصود بـ«الاقتصاد الحرّ»؟ أهو الانفتاح الكامل على الأسواق العالميّة (الذى تتراجع عنه حتّى الولايات المتحدة اليوم) أم أنّ الاقتصاد السورى سيكون خاليًا من الاحتكارات على الصعيد الداخلى؟
• • •
لقد تراجعت حكومة تيسير الأعمال عن إلغاء الرسوم الجمركيّة لكنّها سهّلت المعاملات. وفعلاً من الصعب تحقيق الانفتاح التجارى على الخارج فى ظلّ العقوبات المفروضة من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، والتى تمّ تمديدها لخمس سنوات. وفى الواقع سيؤدّى مثل هذا الانفتاح إلى تقوية اقتصاد شبكات الالتفاف على العقوبات انطلاقًا من تركيا بعد أن ضَعُفِت شبكات لبنان. وما تعنى ترجمته الاتجاه المعاكس لحرية وعدالة التبادلات مع الخارج.
وفى إطار الحريّة الاقتصادية الداخليّة، ليس واضحًا وضع الشركات الاحتكاريّة والريعيّة الكبرى. إذ أشارت الحكومة لشركة الهاتف الخلوى «سيرياتيل» التى كان يهيمن رامى مخلوف على إدارتها، ومن ثم أسماء الأسد وأزلامها، وكذلك لشركة MTN الموضوعة تحت الحراسة القضائيّة، بالاستمرار بالعمل وأنّ أرباح الإيرادات ستذهب من الآن فصاعدًا إلى ميزانيّة الدولة. هكذا دون توضيح إذا كان هذا الإجراء تأميمًا أم استحواذًا للدولة على حصص مهيمنة على رأسمالهما، علمًا أنّ جزءًا هامًّا من أسهم الشركتين أتى من اكتتاب عام للمواطنين. والأمر ذاته بالنسبة لشركة «وفاتيل» التى كانت قد مُنِحَت مؤخّرًا ترخيص مشغّلٍ ثالث للهاتف الخلوى، والتى يُعرَف أنّ أغلبيّة أسهمها استثمار إيرانى تحت غطاء ماليزى. كما أنّ هناك فى سوريا «هيئة ناظمة للاتصالات والبريد» تضبط هذا القطاع، وما زال من غير الواضح كيف سيتمّ وضع شركات الاتصالات التى كانت تعمل فى المناطق المسمّاة «محرّرة» سابقًا، مثل شركة «سيريافون»، ضمن الإطار الناظم السورى وكيف ستتفاعل مع الشركات الأخرى القائمة فى مناطق «النظام» سابقًا؟ وكيف أيضًا سيتمّ تدريجيًا ضبط التعامل فى مجال الاتصالات مع الدول المجاورة؟
قطاع الاتصالات ليس القطاع الاحتكارى الريعى الوحيد. ووضوح التعامل مع هذه القطاعات هو الذى سيُعطى حقًّا المصداقيّة حول حريّة الاقتصاد وعدالة نشاطاته.
• • •
من ناحية أخرى، تمّ منع تحريك أموال الشركات فى المصارف السورية حتّى يتمّ توثيق حقيقة هذه الشركات وألاّ تكون وهميّة. إنّ مثل هذا الإجراء يُمكِن اتخاذه ضمن آليّة لحماية المصارف السوريّة العاملة وأموالها، وخاصّةً تبيان إن كانت القروض الممنوحة فى فترة الصراع وما رافقها من فسادٍ كبير قد أدّت إلى اختلال ميزانيّات المصارف وضياع مدخّرات المواطنين فيها. وبالطبع يتعلّق الأمر أكثر بالمصارف الحكوميّة التى كانت تخضع مباشرةً لتدخّلات السلطة. هذا خاصّةً وأنّ الميزانيّة الإجماليّة للمصارف السوريّة قد انخفضت قيمتها الحقيقيّة إلى أقلّ من 15% من قيمتها عام 2010، وأنّ عودة النشاط المصرفى على صعيد المدخّرات والقروض على السواء ضرورى للنهوض بالاقتصاد.
تجدر الإشارة أنّ خبراء أوروبيين كانوا قد ساعدوا مصرف سوريا المركزى فى وضعٍ أطرٍ ناظمة محدثة للمصارف السورية تعدّ من الأفضل فى المنطقة. وبالتأكيد سيساهم تطبيقها بشكلٍ فعّال وشفّاف فى استعادة صحّة هذا القطاع والاقتصاد، بما فى ذلك مصارف القروض المنتهية الصغر التى كانت «الأمانة العامّة للتنمية» بإدارة أسماء الأسد تهيمِن على أحدها (مصرف «الوطنيّة») والتى ينبغى أن تلعب دورًا رئيسيًّا فيما يسمّى «الإنعاش المبكِّر» وتنشيط الأعمال الصغيرة والمتوسّطة. والمفترض أن تشمل تراخيص ورقابة المصرف المركزى «بنك الشام» الذى يعمل فى إدلب (وتطبيق «شام كاش» للدفع والتحويلات)، فى حين تتضارب التسمية مع بنك الشام الإسلامى المرخّص حاليًا.
بالتوازى ترافق التغيير فى سوريا مع فتح التعامل بالعملات الخارجيّة، خاصّةً الدولار الأمريكى والليرة التركية. وقد رخّصت حكومة تيسير الأعمال رسميًّا بذلك، على غرار لبنان عدا أغلب البلدان العربيّة والعالميّة. هذا الأمر يخلق مخاطر على المدى المتوسّط من تحوّل سوريا إلى اقتصاد «كاش»، لا يُمكِن ضبط آليّاته وأسعاره. صحيحٌ أنّ سعر صرف الليرة السورية قد تحسّن نسبيًّا، ولكن بفعل ضخامة حجم العملات الخارجيّة المتداولة ونقص السيولة بالليرة السوريّة. وصحيحٌ أنّ الأسعار انخفضت نسبيًّا رغم تحرير أسعار البنزين وغيره من المحروقات، مع السماح بدخول البضائع الأجنبيّة حتّى الغذائيّة بشكلٍ كبير. إلاّ أنّ شبح التضخّم قائمٌ بقوّة خاصّةً مع ضعف مداخيل الفئات الشعبيّة.
وقد دفع نقص السيولة بالعملة السوريّة الحكومة إلى إجراءات تدقيق فى العمالة الزائفة فى القطاع العام بغية صرف الأجور محسّنة (+400%؟) بسرعة للموظّفين «الحقيقيين» الذين يبذلون جهودًا كبيرة فى المرحلة الحالية. لأنّ هناك تباينًا كبيرًا فى الأجور بين مناطق «النظام» سابقًا وبين أجور «حكومة الإنقاذ» فى إدلب وأجور المنظّمات غير الحكوميّة المموّلة من الخارج (كمؤسسات SAMS وUSSOM الطبيّة، أو «كالقبّعات البيض» الإغاثيّة). وهذا أيضًا تحدٍّ حقيقى لتوحيد الأوضاع بين مختلف المناطق السوريّة وللعمل على تأمين الحياة الكريمة والطبابة والإغاثة لشعبٍ يرزح أكثر من 80% منه تحت خطّ الفقر. وفى هذا السياق لا بدّ من الشروع سريعًا بتأسيس نظام تأمينٍ صحى عام يضمن الخدمات الصحيّة للأكثر فقرًا فى ظلّ تحرير القطاع الصحى الذى بدأ منذ عقدين.
• • •
بالطبع تكمُن الأولويّة الكبرى اقتصاديًا فى تأمين الكهرباء والطاقة فى ظلّ استمرار العقوبات. وهنا يُمكِن التعاون مع لبنان ومصر لتفعيل عقد البنك الدولى لاستجرار الغاز والكهرباء من مصر والأردن، بالإضافة إلى الجهود الحالية مع تركيا وقطر. وبالتأكيد يجب تسخير موارد النفط والغاز السورى لخدمة جميع السوريين، مع أنّه واضحٌ أنّها لن تكون كافية على المدى المتوسّط. وتكمُن الأولويّة الكبرى الأخرى فى تثبيت مناخ الثقة فى السياسات والمؤسسات بترسيخ التعامل بمنطق الدولة المسئولة عن جميع المواطنين وجميع المناطق دون تمييز، بدايةً بمناطق إدلب التى أتت من سياقها حكومة تيسير الأعمال الحاليّة. وسيساعد التوصّل إلى حكومة انتقاليّة سريعًا، أى قبل مضى ثلاثة أشهر، «ذات مصداقية وتشمل الجميع»، فى تثبيت الثقة داخليًّا وخارجيًّا وترسيخ قرارات أبعد من «تيسير أعمال»!.
لقد فشلت المرحلة الانتقاليّة بعيد «الثورة» فى تونس، بين 2011 وانتخابات 2014، فى وضعٍ أسسٍ اقتصاديّة وماليّة «لحماية مكتسبات الثورة». وقد أدّى هذا الفشل واستفحال التوتّرات بين التيارات السياسيّة إلى تعطيل إمكانيات الدولة فى الفترة اللاحقة لإعادة إطلاق النموّ الاقتصادى وتحفيز الاستثمار وتوطين الكفاءات وتفادى هجرتها. هكذا تنبغى الاستفادة من دروس البلدان الأخرى وبالطبع التعاون مع الدول التى تريد أن تساعد، خاصّةً إذا كان منطق تعاونها هو منطق التعاون بين دول.
الخطوات التى يتمّ العمل عليها اليوم هى التى تُأسّس لما ستكون عليه الأمور غدًا. وضرورة الاستعجال يُلقى عبئًا كبيرًا لا يُمكِن الاستهانة به. ويبقى الاستقرار الاقتصادى والمعيشى لبنة أساسيّة للنموّ الاقتصادى وللسلم الأهلى.

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب

سمير العيطة رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
التعليقات