تثير التصريحات التى يطلقها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وطاقمه منذ تولّيهم السلطة الكثير من الاضطرابات والتساؤلات. فهل يجب أخذَها على محمل الجد؟ وذلك فيما يخصّ ضمّ كندا كولاية أمريكيّة جديدة أو ضمّ جرينلاند أو إعادة الاستيلاء على قناة بنما، أو فيما يخصّ صيغة السلام الذى يزعم ترامب إقامته بين روسيا وأوكرانيا، أو فى التدخّل السياسى لصالح اليمين المتطرّف فى الانتخابات فى أوروبا، أو أيضًا فى مشروع استملاكه أراضى قطّاع غزّة وتهجير الفلسطينيين منه إلى مصر والأردن.. وربّما السعوديّة.
لقد وعد الرئيس ترامب أن يجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى. وهو جاد فى سعيه إلى استعادة دورها كقطب أوحد مهيمن على العالم، فى مواجهة منافساتها، الصين أولا، ثم أوروبا الغربية.. وبدرجة أقل روسيا. ولعل خصوصية رؤيته تكمن فى أنه يخرج، فى سعيه هذا، عن أى مألوف أو قواعد لعب دولية تم اعتمادها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وإنشاء الأمم المتحدة. إذ ينطلق من فهم مفاده أن تطور عالم متعدد الأقطاب وتوازناته يناقض حُكماً دور القطب الأوحد. كما يضع على الطاولة صراحة ودون مواربة كلّ ما تخفيه عادة الخلافات الدولية من مصالح مباشرة، وأن لمصالح الولايات المتحدة الأولوية المطلقة. لكنه فى النهاية واقعى وعملى، ويعرف جيدًا من خلال تاريخه الشخصى، والتجارى قبل كل شىء، الظروف والحدود التى تؤدى إلى صفقة. إنه يطالب بالمستحيل ثم يأخذ أكثر مما يمكن توقعه.
• • •
جميع دول العالم مرتبكة أمام هذه السياسة غير التقليدية، بما فى ذلك حلفاء الولايات المتحدة التاريخيين، أوروبا الغربية واليابان. وقد خضعت اليابان سريعا مع إعلان رئيس وزرائها استثمارات ضخمة فى الولايات المتحدة فى مجالات الذكاء الصناعى وصناعة السيارات وأنها ستستورد الغاز الأمريكى. أمّا أوروبا فهى فى حرج شديد مع شيء من التحدى، وما مثَله إعلان الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون والاتحاد الأوروبى عن استثمارات ضخمة بحجم الاستثمارات التى أطلقها ترامب فى أمريكا.. فالذكاء الاصطناعى هو وسيلة الهيمنة العالمية المستقبلية. كذلك حصلت مشاحنات علنيّة بين نائب الرئيس الأمريكى جايمس ديفيد فانس وعدد من المسئولين الأوروبيين الكبار، بينهم رئيس وزراء ألمانيا، فى مؤتمر ميونيخ للأمن. وقد غدا ملف أوكرانيا وأمن أوروبا مستقبلًا، دون دعم حتمى من الولايات المتحدة، أساسًا لخلافات قد تستمر طويلًا.
كذلك من الواضح أن السياسة الأمريكية الجديدة ستكون لها تداعيات كبيرة على الدول العربية. فبعد إعلان ترامب أنه سيعمل على إحلال السلام فى الشرق الأوسط، فجر جميع المواقف العربية تصريحه بخصوص استحواذه على قطاع غزة لتحويله إلى «ريفييرا الشرق الأوسط» مع تهجير سكانه نهائيا إلى مصر والأردن وربما السعودية. تبعه تصريح بـ«فتح أبواب الجحيم» على غزة إذا لم يتم إطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين.
هكذا وضع التصريح الأول، بداية، الأردن فى موقف صعب للغاية، خاصة أنه كان الأكثر تأثرًا بإيقاف جميع المساعدات الأمريكية حول العالم، باستثناء المساعدات المباشرة لإسرائيل ومصر. فالمساعدات الأمريكيّة المباشرة وعبر وكالة التنمية USAID تشكل جزءًا ملحوظًا من ميزانية الأردن واقتصاده. ومصر أيضًا فى أوضاع اقتصادية ومالية حساسة، رغم استمرار الدعم الأمريكى المباشر. لقد رفضت هى أيضًا خطة ترامب، وأعلنت أنها ستقدم خطة بديلة للقطاع، يستحيل حقًا تنفيذها دون دعم قوى من دول الخليج العربى. فى حين تواجه هذه الأخيرة ابتزازًا ماليًا كبيرًا من قبل الولايات المتحدة. أضِف أن خطة ترامب تضع إقامة الدولة الفلسطينية كشرط للسعودية للتطبيع مع إسرائيل على المحك. هكذا لن تكون مهمة القمة العربية المرتقبة حول غزة سهلة، حيث لا دولة فلسطينية دون غزة.
التصريح الثانى يبدو أكثر غرابة لأن الولايات المتحدة ليست هى من سينفذ جيشها التهديد، بل الجيش الإسرائيلى. هذا فى ظل تفاوض على مراحل بدا أنه خرج من استعصائه، ومصر طرف فيه. بالتالى يُحرج هذا التصريح الثانى الدول العربية وإسرائيل على السواء، حيث يجب التوصل إلى صفقة نهائية بسرعة بعد سنة ونصف السنة من الإبادة الجماعية فى غزة ومع بداية التدمير فى الضفة الغربية. وقد يعنى هذا نهاية وقوف السياسة الأمريكية وراء سياسات بنيامين نتنياهو والقادة الإسرائيليين بل فرض الإرادة الأمريكية فى موقع القيادة. وربما يكمن الدليل فى معالم فرض الإرادة الأمريكية أولا بشكل واضح على لبنان. هذا بالرغم من عدم الوضوح حول من سيموّل إعادة إعمار ما دمّرته الحرب الأخيرة فى ظل المنع الحازم لعودة التدخل الإيرانى.
• • •
لا يعنى هذا أن هذه الإرادة الأمريكية ستنتهى بصفقات تصون حقوق الشعوب العربية وغيرها كما تصون أسس القانون والقواعد الدوليين. فها هى محكمة العدل الدولية تُعاقب، وها هى مساهمات الولايات المتحدة الأساسية فى تمويل مؤسسات الأمم المتحدة تتوقف. وما يكشف عن إعاقة كبيرة لجميع نشاطاتها. بل تنسحب أمريكا من برنامج الغذاء العالمى WFP الذى يعمل على تأمين الطعام للمنكوبين حول العالم.
إن ترامب لم يأخذ حتى الآن موقفًا واضحًا من الصراعات المستمرة فى السودان واليمن، ولا حتى من تغيير النظام فى سوريا ومآلاته. وفيما يخص سوريا، فقط تسعى الأجهزة الأمريكية لمجرد فتح تفاوض بين الإدارة الذاتية فى شمال الشرق والسلطات الجديدة، دون الانخراط فى تفاوض مع تركيا التى لها الكلمة الأساسية فى هذا الملف الذى يخص إعادة توحيد الأراضى السورية. هذا فى حين تعمل إسرائيل على أن تكون لها كلمتها المحورية فى هذا الشأن، خاصة وأن إدارة ترامب تعد الخطط للانسحاب من قواعدها فى سوريا.
كما لا تبدى الإدارة الأمريكية اهتمامًا لرفع أو تخفيف عقوباتها على سوريا، والتى لا تستطيع لا أوروبا ولا الدول الأخرى تجاوزها، علمًا بأن الأسباب الموجبة لها قد انتفت، كما فى حال قانون قيصر. هذا بالرغم من استمرار معاناة الشعب السورى معيشيًّا، بل تفاقم هذه المعاناة لأسباب متعددة، منها زوال المعونات الأمريكية التى كانت رئيسية للمنظمات التى تدعم النازحين والفقراء.
إن عودة التواصل بين سلطات الأمر الواقع فى سوريا وروسيا فى محاولة لتخفيف المعاناة لم تحث الإدارة الأمريكية الجديدة على القيام بأية خطوة على هذا الصعيد. هذا على عكس إدارة بايدن التى سارعت قبيل رحيلها إلى منح إعفاء جزئى مؤقت من العقوبات لتواجه المبادرات الروسية، ولكن دون أن يكون لهذا الإعفاء أثر حقيقى على الشعب السورى.
• • •
بالنتيجة، لا يواجه تحدى القمة العربية القادمة غزة وفلسطين وحدها، بل أيضًا لبنان وسوريا. الملفات الثلاث مترابطة -وكذلك مع الأردن- بما أنه تم إبعاد إيران منها الثلاثة. وهذا ما يضع على عاتق البلدان العربية المؤثرة، والخليجية منها خصوصًا، تحديًا كبيرًا فى تجاوز خلافاتها والمنافسة الكبيرة بينها، لإيجاد أسس لسبل استقرار ولو نسبيًا، وحياة كريمة لشعوب بلاد الشام.
فى المحصلة، قد تتمثل إحدى فضائل استفزازات رؤى الرئيس ترامب أنها تضع جميع الدول العربية، خاصة تلك الحليفة التاريخية للولايات المتحدة، أمام تحدى الإجابة عن التساؤل: ماذا بعد ضمور النفوذ الإيرانى الذى طالما نددت به؟ وهل يمكنها تحقيق الرخاء لسكانها دون إنهاء معاناة شعوب بلاد الشام ومساعدتها على النهوض إلى جانبها؟!