نشر موقع 180 مقالا مترجما بتصرف عن مجلة فورين أفيرز الأمريكية، لنائب المبعوث الأمريكى الخاص السابق إلى إيران، ريتشارد نيفيو، بعنوان «فرصة أخيرة لإيران»، منشورا بتاريخ 2 يناير الجارى، قامت بترجمته منى فرح، تحدث نيفيو عن عدة أسباب تدفع إلى ضرورة إعطاء الولايات المتحدة فرصة أخيرة للدبلوماسية فيما يتعلق بالبرنامج النووى الإيرانى قبل استخدام الخيار العسكرى.. نعرض من المقال ما يلى:
إذا قرّرت أمريكا الذهاب إلى الخيار العسكرى مع إيران، فهى بذلك تخاطر فى إثارة المزيد من الفوضى وعدم الاستقرار فى الشرق الأوسط، وتضع على نفسها تكاليف مادية جسيمة ستتكبدها فى أى مواجهة مباشرة، فى وقت تحتاج فيه لأن تركز على مناطق أخرى. لكن الحجج التى كانت تحول دون قرار العمل العسكرى لم تعد مُقنعة كما كانت قبل عقدين. فالبرنامج النووى الإيرانى قطع أشواطا متقدمة جدا، ولدى طهران كل ما تحتاجه تقريبا لتنتج قنبلتها عندما تقرر ذلك.
فى المقابل، الحوافز التى تدفع طهران اليوم للتحول إلى الطاقة النووية أعظم من أى وقت مضى، ومن المرجح أن تكون تكاليفها المتوقعة قد تضاءلت. أضف إلى ذلك، أن المجتمع الدولى أصبح منقسما بخصوص فعّالية العقوبات التى تُنتهك باستمرار من جانب دول عديدة، وصعوبة التعاول مع بعض الدول -الصين وروسيا على وجه الخصوص.
لذلك تبقى الدبلوماسية هى الحل الأفضل والأكثر ديمومة. ومخاطر أى عمل عسكرى يفرض على واشنطن أن تقوم بمحاولة أخيرة بحسن نية للتفاوض على وقف البرنامج النووى الإيرانى. كما أن الحكمة تتطلب من واشنطن البدء بالتخطيط لعمل عسكرى الآن، والتأكد من إيران تفهم أن هذا تهديد حقيقى.
• • •
هناك العديد من الأسباب التى تدعو إلى إعطاء الدبلوماسية فرصة أخيرة، منها: أولاً، لا أحد يستطيع أن يضمن نجاح الخيار العسكرى فى وقف البرنامج النووى الإيرانى. ربما تمتلك أمريكا وشركاؤها الوسائل اللازمة لتدمير كل المنشآت النووية الرئيسية فى إيران. ولكن هذا لا يضمن القضاء على كل المواد النووية التى تمتلكها البلاد، أو حتى كل معداتها النووية، التى قد يكون بعضها مخبئا فى مخازن مدفونة فى أعماق الأرض.
ثانيا: بإمكان طهران إذا تعرضت إيران لهجوم من قبل قوة نووية معلنة (وهو التصنيف الذى ينطبق على الولايات المتحدة) فهذا سيحفزها على تطوير رادعها الخاص خصوصا وأنها تدرك أنه بات لديها شرعية دولية أكبر للقيام بذلك.
ثالثا: أصبح لدى إيران خبرة نووية لا يُستهان بها تؤهلها لإنتاج سلاح نووى، وحتى إعادة تأهيل برنامجها بسرعة فى حال تم تدمير المعدات والموادها التى لديها. إن التعويل على تدمير منشأة نطنز لن يكون الحل، تماما كما لم يكن اغتيال عالم الفيزياء محسن فخرى زاده، أو قصف موقع إنتاج أجهزة الطرد المركزى حلا.
رابعا: إذا قررت أمريكا سحق البرنامج النووى نهائيا، فهذا يعنى أنها ستضطر لشنّ هجمات على إيران بشكل دائم، وإلى الأبد. تضمن لها القضاء على أكبر عدد ممكن من قوات النظام وقدراته العسكرية وغير العسكرية. وهذا صعب جدا.
• • •
إذن، يبدو أن على أمريكا اللجوء إلى الدبلوماسية مرة أخرى. وهناك أسباب تدعو إلى التفاؤل بأن البلدين، وبرغم الأوضاع المتقلبة، قد يتمكنان من التوصل إلى صفقة. فالدبلوماسية تتمتع بسجل حافل بالنجاحات عندما يتعلق الأمر بإبطاء طموحات إيران النووية – قبل أن ينسحب ترامب من الاتفاق النووى.
ترامب بعد انتخابه أبدى اهتماما باتفاق بسيط لحرمان إيران من امتلاك سلاح نووى. وسوف تحتاج طهران وواشنطن إلى الاتفاق بشأن أى قيود تُفرض على البرنامج النووى، وما هو السلوك المسموح به لإيران إقليميا، وكيف سيتم تخفيف أو رفع العقوبات عنها، وما هى الضمانات الأمنية التى قد تحصل عليها.
فهم كل هذه القضايا يتطلب مفاوضات مكثفة لضمان استدامة الصفقة وقابليتها للتحقق والتنفيذ، وسوف يتطلب مشاركة المزيد من الأطراف إذا كان من المقرر أن تكون القضايا الإقليمية محور الاهتمام. والمحادثات المتعددة الأطراف صعبة فى أفضل الأوقات، فموسكو منشغلة فى أوكرانيا، والتوترات مع بكين فى أعلى مستوياتها.. وهذان اثنان من العوامل المزعجة التى من شأنها أن تجعل التوصل لأى صفقة مهمة فى غاية الصعوبة.
• • •
ومع ذلك، ثمة أمل فى أن تتمكن واشنطن وطهران من التوصل إلى نوع من الاتفاق. فإذا أصرت أمريكا على نهج «الضغوط القصوى» بهدف تليّين إيران وإجبارها على التفاوض، فقد تلجأ الأخيرة إلى إخفاء موادها النووية، أو إنتاج قنبلتها فى السرّ، أو الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووى، أو كل هذه الأمور مرة واحدة.
الفشل فى التوصل إلى صفقة سيضع أمريكا أمام خيار وحيد: الاستعداد لتحريك جيشها، والهجوم. صحيح أن الأسلحة النووية الإيرانية لن تشكل تهديدا وجوديا على المدى القريب لأمريكا. لكن إذا أنتجت إيران سلاحها فسوف تشجع آخرين فى الشرق الأوسط على القيام بذلك، وهو ما من شأنه أن يؤدى إلى سباقات تسلح، ويصبح العالم أجمع فى خطر مُحدّق.
ضرب البرنامج النووى له فوائد استراتيجية، منها استنزاف المزيد من موارد إيران المحدودة أصلاً. وهذا سيضعف إمكانياتها على تهديد المصالح الأمريكية، أو محاولة إعادة بناء قدرات حزب الله. ببساطة، إضعاف إيران سيضطرها لاتخاذ خيارات استراتيجية حقيقية من شأنها أن تعود بفوائد على الشرق الأوسط. الوقت أمام طهران سيكون أضيق، ومواردها أقل، وقدرتها على مضايقة جيرانها أضعف.. وهذا كله سيحفّزها على العمل من أجل ترتيبات أمنية إقليمية بنّاءة، كما سيُقلّل من الضغوط على دول أخرى للحصول على سلاح نووى.
• • •
من المؤكد أن ضرب إيران ليس السبيل الوحيد (ولا الخيار الأفضل) لتعزيز صورة القوة الأمريكية، ولكنه قد يلعب دورا. توجيه ضربة قاضية للبرنامج النووى سيساعد فى تعزيز مصداقية أمريكا، والعكس صحيح. فعلى مدى العقدين الماضيين، نشأت شكوك فى العالم بشأن التزام واشنطن بمعالجة التهديدات (تجربة إدارة باراك أوباما مع نظام بشار الأسد فى سوريا، فشل إدارة ترامب الأولى فى وقف الهجمات الإيرانية على القوات الأمريكية والمنشآت النفطية الخاصة بالحلفاء.. وغيرها). وإذا حصل ونجحت إيران فى امتلاك سلاح نووى، فسوف تُطرح المزيد من الأسئلة والشكوك حول مصداقية الالتزامات الأمريكية.
تعتبر سلطة واشنطن على حسابات طهران النووية محدودة فى نهاية المطاف، ولا أحد يعرف كيف ينظر المسئولون الإيرانيون حقا إلى مأزقهم الحالى. كما أن العودة لتشديد العقوبات ستزيد من سعى إيران للتسلح. فاقتصادها المتعثر بسبب هذه العقوبات وطول مدة الحصار المفروض عليها، والضربات التى تلقتها مؤخرا من إسرائيل، كلها أسباب كافية لدفعها إلى البحث عن رادع قوى، قد يكون على هيئة قنبلة نووية تنتجها فى الوقت الذى تختاره. وبالتالى على صُناع السياسات فى أمريكا أن يبدأوا فى إعادة حساباتهم الخاصة على قاعدة أن الأسلحة النووية الإيرانية احتمال وارد جدا، وأن الفرصة لتجنب هذه النتيجة أصبحت محدودة جدا.
إن الظروف التى تطغى على الساحتين الإقليمية والدولية اليوم، والمستجدات التى شهدتها إيران والمنطقة والعالم، تختلف عن تلك التى كانت سائدة يوم تم التفاوض حول «خطة العمل الشاملة المشتركة». والهدوء النسبى للأزمة النووية الحالية بين واشنطن وطهران سببه طبيعة الحروب المستعرة فى أماكن أخرى وليس ضبط النفس من الجانبين. لكن لا يوجد ما يضمن أن الأزمة ستظل هادئة لفترة أطول.