نشرت مجلة فورين بوليسى مقالًا لأستاذ العلاقات الدولية فى جامعة هارفارد ستيفن والت، رأى فيه أن حالة الترقب والقلق التى تنتاب العالم بعد فوز ترامب فى الانتخابات الرئاسية هى حالة غير مبررة ومبالغ فيها. وأورد عدة أسباب للتدليل على محدودية قدرة ترامب على قلب النظام العالمى.. نعرض من المقال ما يلى:
عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ومعه أغنى صاحب نفوذ فى العالم إيلون ماسك. ويبدو أنهما مقتنعان بقدرتهما على ترهيب العالم أجمع. ترامب يهدد الدول الأجنبية بالرسوم الجمركية وغيرها من العقوبات إذا لم تقدم له ما يطلبه رغم أنه لم يقسم اليمين حتى الآن. يهدد بمقاضاة الصحف التى تنتقده ومعاقبة قادة الشركات الذين لا يمتثلون له. كما أن مرشح ترامب لرئاسة مكتب التحقيقات الفيدرالى وبعض أعضاء الحزب الجمهورى بالكونجرس حريصون على ملاحقة خصومه السياسيين.
يقول ستيفن والت، كاتب المقال: ليس من المستغرب أن يعتقد ترامب أن هذا النهج سينجح. فـأصحاب الشركات الأثرياء يحاولون كسب ودّه، وترفع مؤسسات إخبارية- كانت ذات يوم متميزة مثل إيه بى سى وصحيفة لوس أنجلوس تايمز- الرايات البيضاء، ويتجه المعلقون إلى التواطؤ. ومن المتوقع أن تبدأ الجامعات وغيرها من مصادر التفكير المستقل فى الاحتماء وتقليص أشرعتها.
يضيف والت: الظروف الدولية تقف فى صفهم أيضًا. فأوروبا راكدة اقتصاديا ومنقسمة سياسيا. وحكومة ترودو فى كندا استقالت. وروسيا منهكة. والاقتصاد الصينى يغازل الانكماش وأكثر عرضة للضغوط. ومحور المقاومة فى الشرق الأوسط فى حالة من الفوضى، بعد الإطاحة بالرئيس السورى بشار الأسد والتى مثلت ضربة أخيرة لجهود المقاومة الرامية إلى تحدى الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية.
بناء عليه، تعتقد الإدارة الأمريكية المقبلة أن الوقت قد حان لكى تفرض أقصى قدر من الضغوط على أى شخص وكل شخص غير راغب فى إعطاء ترامب ما يريده. ويبدو للوهلة الأولى أن هذا النهج يحقق نجاحا كبيرا: إذ قام رئيس الوزراء الكندى، جاستن ترودو، قبل استقالته برحلة إلى مار إيه لاجو، منتجع ترامب. وتتحدث دول حلف شمال الأطلسى عن هدف إنفاق دفاعى بنسبة 3% من الناتج المحلى الإجمالى، ويواصل الرئيس الإيرانى القول إنه يريد خفض التوترات مع العالم الخارجى.
• • •
تساءل والت: هل أصبحت الولايات المتحدة الآن على استعداد لإعادة صياغة السياسة العالمية وفقًا لأهواء ترامب أو ماسك؟ وهل نشهد عودة إلى اللحظة الأحادية القطبية، من دون المثالية الليبرالية؟ وهل يستطيع ترامب حقًا أن يرهب العالم؟
أجاب والت بأنه يشك فى ذلك، وعلل شكّه بعدة أسباب. أولًا: فى تسعينيات القرن العشرين، افترض الساسة والخبراء فى الولايات المتحدة أن التاريخ كان يجرى لصالح بلادهم وأن دولة تلو الأخرى سوف تنحنى أمام القوة الهائلة لأمريكا والجاذبية التى لا تقاوم للرأسمالية الديمقراطية الليبرالية. ولن يكون هناك سوى حفنة من «الدول المارقة»، التى سيتم احتواؤها وإجبارها فى النهاية على الخضوع. وإذا لم ينجح ذلك، كان هناك دائمًا خيار تغيير النظام. ومع ذلك، لم تسر الأمور كما توقعوا، بل كان هذا النهج هو أحد الأسباب التى جاءت بشخص مثل ترامب للحكم.
ثانيًا: القوة غير المقيدة لواشنطن تجعل الآخرين متوترين وغاضبين ومستائين. والرد النموذجى على هذا هو تحقيق التوازن ضد الضغوط الأمريكية، بشكل علنى (كما فعلت روسيا والصين وإيران)، أو من خلال «التوازن الناعم»، كما يفعل حلفاء الولايات المتحدة فى أوروبا فى هذه الأثناء.
ثالثًا: رغم أن إطلاق التهديدات لا يكلف ترامب شيئًا، لكن تنفيذها سيكلفه الكثير. بمعنى أن فرض الرسوم الجمركية أو غيرها من العقوبات قد يضر بالآخرين أكثر مما يضر بالولايات المتحدة (باعتبار أنها أكبر وأقوى دولة)، لكن فرض الرسوم الجمركية على دول معينة تتعامل معها واشنطن، مثل الصين أو دول تعتمد عليها الصناعة الأمريكية فى الحصول على المدخلات أو السلع الأساسية، بالتأكيد سيكون لها تكاليف. حتى الدول الأضعف مثل إيران ستكون على استعداد لدفع ثمن باهظ عندما تكون مصالحها الحيوية مهددة. باختصار، هناك حدود لما يمكن لترامب أن يطلبه من أى شخص/دولة.
رابعًا: ترامب يتعامل مع أهدافه بشكل فردى، لأن هذا يزيد من نفوذه. فهو لن يرغب فى التعامل مباشرة مع الاتحاد الأوروبى؛ بل يفضل التعامل مباشرة مع كل دول أوروبية على حدة. وهذا النهج غير فعال ويستغرق وقتًا طويلًا، وبالتالى لن يتم إنجاز صفقاته ببساطة.
خامسًا: الدول التى تواجه البلطجة لديها الكثير من الطرق للتظاهر بالموافقة دون الامتثال فعليًا. بعض الزعماء الأذكياء سوف يُرضون غرور ترامب، ويقولون إنهم على استعداد لمناقشة أى شىء فى ذهنه، فى حين يقدمون فقط تنازلات طفيفة أو رمزية بحتة. سيخبرون ترامب أنهم سيفعلون ما يريد ثم يتباطئون. ومراقبة من يفى بوعوده ومن يتهرب فى النظام الدولى هى مهمة شاقة.
سادسًا: ترامب يهتم بالمظاهر أكثر من اهتمامه بالإنجازات. مثلًا، اجتماعه مع الزعيم الكورى الشمالى، كيم جونج أون، فى إطار برنامج تليفزيونى كان ناجحًا للغاية: شاهده العالم بأسره، بنسبة مشاهدة مرتفعة. لكن لم يسفر كل هذا الضجيج عن أى شىء، وكان كيم، وليس ترامب، هو الفائز الأكبر، فقد حصل على الهيبة والشرعية التى تترتب على اجتماع مباشر مع رئيس الولايات المتحدة، وخرج ترامب بلا شىء.
سابعًا: الولايات المتحدة ليست قوية على الإطلاق. فقد ينفجر العجز الأمريكى أو يعود التضخم بشكل كبير. وقبضة ترامب على السياسة الداخلية ليست قوية: فهامش الحزب الجمهورى فى مجلس النواب والشيوخ ضئيل للغاية.
أخيرًا، يواجه كل رئيس أمريكى بعض المفاجآت السيئة التى لم يكن يتوقعها أو يخطط لها. بالنسبة لجورج بوش الابن، كانت هناك أحداث الحادى عشر من سبتمبر. وبالنسبة لباراك أوباما، كانت أحداث الربيع العربى والاستيلاء الروسى على شبه جزيرة القرم. وبالنسبة لجو بايدن، كانت أحداث غزو روسيا لأوكرانيا والحرب على غزة ولبنان والضفة الغربية. وفى فترة ولاية ترامب الأولى، كانت جائحة كورونا، وسوء تعامله مع هذه الأزمة غير المتوقعة هو أحد الأسباب الرئيسية لخسارته انتخابات 2020. وبعد أن نجح فى تشكيل إدارة هزلية لولايته الثانية، ربما سيكون ترامب غير مستعد لأى مشكلة غير متوقعة تظهر على مكتبه.
• • •
نوه والت فى ختام مقاله أن ترامب يستطيع أن يلوح بالعصا الغليظة ويحمل بعض الدول على إعطائه بعض ما يريده. فبشكل عام، إذا هدد شخص عددًا كافيًا من الناس، فإن عددًا قليلًا منهم سوف يمتثلون بلا شك. وسوف ينسب ترامب الفضل لنفسه بالكامل كلما حدث هذا (حتى لو كانت الفوائد متواضعة)،. ونظرًا لقدرة ترامب على إقناع الناس بالعديد من الأشياء غير الصحيحة، وعجز وسائل الإعلام الإخبارية الأمريكية عن محاسبته، فإن هذا النهج قد يقنع الشعب الأمريكى بأنه يقوم بعمل عظيم. ولكن ما لن يفعله هو القيام بإنجازات حقيقية فى السياسة الخارجية.
ترجمة وتحرير: ياسمين عبداللطيف